بقلم: شالوم ليبنر
لا يزال الإسرائيليون يعانون الآثار المدمرة لأكبر فشل استخباراتي وعملياتي واجههوه في تاريخ بلادهم الممتد على مدى 75 عاماً.
في الواقع لقد ثبت فشل اعتقاد ساد في إسرائيل منذ فترة طويلة وهو أن "الأسوار الذكية" والتدفق السخي للأموال الأجنبية من شأنه أن يبقي "حماس" تحت السيطرة، وقد خلف هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على جنوب إسرائيل أعداداً صادمة من الضحايا، فأسفر عن مقتل ما يقارب 1200 شخص وإصابة آلاف بجروح واختطاف أكثر من 240 رهينة ونقلهم إلى قطاع غزة، وكذلك نزوح مئات الآلاف، ومن المتوقع أن تستمر معاناة إسرائيل من هذه الصدمة الوطنية في المستقبل المنظور.
وفي أعقاب الهجوم مباشرة أعلنت الحكومة الإسرائيلية تعبئة طارئة لقوات الجيش، وتعهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بإنهاء الحرب التي لم يرغب الإسرائيليون بها، وبعد مرور ثلاثة أشهر تقريباً على اندلاعها تستمر عملية "السيوف الحديدية"، وهي التسمية التي أُعطيت منذ البداية على العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة، بلا هوادة بعد هدنة قصيرة في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) أُطلق خلالها 105 رهائن من المدنيين الذين أسرتهم "حماس".
وأعلن نتنياهو أن أهداف الحملة هي القضاء على "حماس" واستعادة جميع المواطنين الإسرائيليين المختطفين، وضمان ألا يشكل أي عنصر في غزة تهديداً لإسرائيل مرة أخرى.
بيد أن الجدول الزمني لاستكمال الهجوم الطموح الذي يشنه الجيش الإسرائيلي لا يزال غامضاً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الخطوط العريضة لأية نهاية محتملة في غزة.
وما هو واضح بصورة لا لبس فيها هو أن قدرة إسرائيل على تحقيق أهدافها المعلنة للحرب ستكون محدودة إلى حد كبير من دون الدعم القوي من الولايات المتحدة. ومع استمرار القتال وظهور الاختلاف بين الموقفين الأميركي والإسرائيلي فإن إسرائيل لديها أسباب وجيهة تدعوها إلى بذل جهد كبير في سبيل الحفاظ على تحالفها الرئيس، ومن أجل ضمان صمود علاقاتها الوطيدة مع الولايات المتحدة إلى ما بعد الحرب، ولا يكفي أن تدير إسرائيل حملتها العسكرية الحالية بحكمة بل يتعين عليها أيضاً أن تعالج المشكلات السياسية الداخلية وأن تحدد بصورة حاسمة طريقة عزمها لحل صراعها مع الفلسطينيين.
تغيير النهج وتقلب العلاقات
ولم تكن بداية المرحلة الحالية من علاقة مستمرة منذ عقود بين نتنياهو الذي عاد في ديسمبر (كانون الأول) الماضي ليتولى مهمات رئيس وزراء إسرائيل والرئيس الأميركي جو بايدن سهلة، فالأخير الذي غالباً ما يشار إلى قيامه بالكتابة على صورة قديمة لهما عبارة "أنا لا أتفق مع أي شيء تقوله لكنني أحبك"، انتظر أربعة أسابيع كاملة بعد تنصيبه قبل أن يتصل بالزعيم الإسرائيلي، ورأى كثيرون أن هذا التأخير كان بمثابة رد على مماطلة نتنياهو في تهنئة بايدن بعد فوزه على الرئيس دونالد ترمب عام 2020. (عندما اتصل نتنياهو أخيراً ببايدن تلقى رئيس الوزراء انتقادات حادة من ترمب لما اعتبره موقفاً غير مخلص).
إدارة بايدن لم تخف كذلك استياءها من ضم نتنياهو شركاء من اليمين المتطرف إلى الائتلاف الحاكم الذي يقوده، وأبرزهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووعدت بتحميل رئيس الوزراء شخصياً المسؤولية عن أي أفعال ترتكبها حكومته. ولم يمض وقت طويل قبل أن تفي واشنطن بهذا التعهد، ففي يناير (كانون الثاني) 2023 عندما صعد بن غفير إلى جبل الهيكل، وهو موقع ديني حساس يضم المسجد الأقصى، خلال الأيام الأولى من توليه منصبه، دان المسؤولون الأميركيون هذه الخطوة بشدة وتجنبوا التعامل المباشر مع بن غفير، ثم تصاعدت التوترات في وقت لاحق من الأسبوع نفسه عقب كشف وزير العدل ياريف ليفين عن خطط مثيرة للجدل لإجراء إصلاح جذري للنظام القضائي الإسرائيلي.
وفي الحقيقة كانت تداعيات التوتر الواضح بين الحكومتين الأميركية والإسرائيلية محرجة بخاصة لنتنياهو، وهو السياسي الذي يفتخر بفهمه العميق للسياسة الأميركية، فهو الذي وجد نفسه ينتظر بصورة محرجة دعوة إلى زيارة البيت الأبيض ليصبح أول رئيس وزراء إسرائيلي منذ أكثر من نصف قرن لا يحصل على اجتماع في المكتب البيضاوي خلال السنة الأولى من ولايته.
وفي الوقت نفسه اُعتبر سموتريتش شخصاً غير مرحب به في واشنطن عندما زارها في مارس (آذار) 2023، كما عمدت وفود الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي التي زارت إسرائيل إلى تجاهل سموتريتش وبن غفير وكذلك استبعادهما وأعضاء آخرين في حزبيهما من قائمة الضيوف المدعوين لحضور حفل الاستقبال السنوي في الرابع من يوليو (تموز) الماضي الذي استضافته السفارة الأميركية في القدس.
وعلاوة على ذلك تسربت الخلافات بين حكومة نتنياهو وإدارة بايدن حول التحول المقرر إجراؤه في السلطة القضائية الإسرائيلية إلى الرأي العام بصورة متكررة.
وفي يناير (كانون الثاني) 2023، في أول رحلة إلى تل أبيب منذ انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 الإسرائيلية، خصص وزير الخارجية أنتوني بلينكن وقتاً كبيراً من جدول أعماله للقاء ممثلي المجتمع المدني، مما رفع معنويات منتقدي أجندة نتنياهو وأعطى إشارة واضحة للغاية بأن الولايات المتحدة الأميركية تشعر بالقلق إزاء مصير الديمقراطية الإسرائيلية.
وبطريقة موازية أعرب البيت الأبيض عن مخاوف مماثلة، ففي يونيو (حزيران) أثناء الاحتفال بمرور 75 عاماً على قيام إسرائيل، سلطت نائبة الرئيس كامالا هاريس الضوء بوضوح على "المؤسسات القوية والضوابط والتوازنات والقضاء المستقل"، باعتبارها ركائز للديمقراطية في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. وبعد ساعات رد وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين بأن هاريس ربما لم تقرأ حتى القانون المقترح، وبأنها لن تكون قادرة على إيجاد أي جزء من الإصلاح قد "يسبب إزعاجاً لها".
ثم جاءت الأحداث المروعة التي وقعت في السابع من أكتوبر الماضي لتعيد إشعال دائرة التوتر من جديد.
في الواقع لم تختف العداوات بين بايدن ونتنياهو، لكن التعاطف مع ورطة إسرائيل طغى على الخلافات العالقة، فوعد بايدن الذي وصل إلى إسرائيل في الـ 18 من أكتوبر الماضي، وكان أول رئيس أميركي على الإطلاق يزور البلاد وسط حرب، شعب إسرائيل بأن الولايات المتحدة "ستقف إلى جانبهم"، وتعهد قائلاً "سنسير إلى جانبكم في الأيام المظلمة، وسنسير إلى جانبكم في الأيام الطيبة المقبلة".
وبشكل عام حافظ المسؤولون الأميركيون على دعمهم لعمليات الجيش الإسرائيلي في غزة مع الإذعان باستمرار لصلاحيات الحكومة الإسرائيلية، وعندما سُئل بلينكن في الـ 10 من ديسمبر الماضي عن الموعد الذي يتوقع أن ينهي فيه الجيش الإسرائيلي حملته العسكرية، أجاب بصراحة أن "هذه قرارات تتخذها إسرائيل".
وفي الثامن من ديسمبر استخدم نائب السفير الأميركي حق النقض ضد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، إذ رأى أن مثل هذا الوقف لن يؤدي إلا إلى زرع بذور الحرب المقبلة لأن "حماس" ليست لديها أي رغبة في رؤية سلام دائم. وبطريقة موازية وجهت واشنطن تحذيرات ونصائح لإسرائيل بصورة دورية، ومن بينها على سبيل المثال تشديد وزير الدفاع لويد أوستن في الثاني من ديسمبر الماضي على أن "حماية المدنيين الفلسطينيين في غزة واجب أخلاقي وضرورة إستراتيجية"، بيد أن مثل هذه التعليقات لم تخفف من التأثير الإجمالي للسياسة الأميركية التي، وفق ما أكده أوستن أيضاً، تدعم "حق إسرائيل الراسخ في الدفاع عن نفسها".
تبنى بايدن إستراتيجية دعم إسرائيل علناً بينما أعرب سراً عن تحفظات الولايات المتحدة في محادثات خاصة مع القادة الإسرائيليين، معتقداً أن هذا التكتيك سيمنحه تأثيراً أكبر على عملية صنع القرار في إسرائيل مقارنة بنهج المواجهة. وفي الحقيقة كانت لتدخلاته الشخصية بعض التأثير، مثل إقناع إسرائيل مثلاً بالتراجع عن خطط توجيه ضربة وقائية ضد "حزب الله" في لبنان خلال الأيام التي أعقبت الهجوم الأولي الذي شنته "حماس".
ومع ذلك يرى النقاد أن الأضرار الجسيمة التي ألحقها الجيش الإسرائيلي بغزة تعكس القيود المفروضة على الدبلوماسية الأميركية، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة تسعى إلى تحقيق مصلحتها الخاصة في دعم الجهود الإسرائيلية ضد "حماس" التي تعتبرها رسمياً منظمة إرهابية، ومن خلال هذه الإجراءات استفادت إسرائيل بصورة كبيرة من الدعم الثابت لحليفتها.
أصدقاء نافذون
تطورت علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل بصورة مطردة منذ اعتراف الرئيس هاري ترومان بالدولة اليهودية في الـ 14 من مايو (أيار) 1948، ولم تبدأ واشنطن في تقديم المعدات العسكرية لإسرائيل إلا خلال ستينيات القرن الـ 20 في عهد الرئيس جون كينيدي، فزودتها بشحنات بطاريات هوك المضادة للصواريخ.
وبعد وقت قصير في عهد خليفة كينيدي، الرئيس ليندون جونسون، حصلت إسرائيل على دبابات "إم-48 باتون" القتالية وطائرات هجومية خفيفة من طراز "إيه-4 سكاي هوك"، وقاذفات مقاتلة من طراز "إف-4 فانتوم".
وفي رسالة وجهها الرئيس رونالد ريغان إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن عام 1982، جاء أول تعهد أميركي صريح بالحفاظ على تفوق إسرائيل العسكري النوعي، وكان بمثابة ضمانة تكفل التفوق الإسرائيلي العسكري على منافسيها.
وفي بعض الأحيان شهد التعاون الأميركي - الإسرائيلي اضطرابات لكنه حافظ على مسار تصاعدي ثابت، وقد عززت المساعدات الأمنية والدبلوماسية والاقتصادية الأميركية مكانة إسرائيل في منطقة متقلبة متوترة.
وفي الواقع فإن وجود "أخ أكبر" إلى جانب إسرائيل مكنها من تحقيق نجاح يتجاوز ثقلها الديموغرافي وحجمها الجغرافي، وإبراز قوتها خارج حدودها، واستمر التزام الولايات المتحدة تجاه إسرائيل في عهد الرؤساء الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء بمن فيهم أحدث من شغلوا هذا المنصب.
وفي فترة رئاسته اعترف ترمب رسمياً بالقدس عاصمة لإسرائيل وبمرتفعات الجولان أرضاً ذات سيادة إسرائيلية، وهو ما لاقى رضاً واسعاً داخل الأوساط الإسرائيلية ونقل رسالة قوية إلى الدول المجاورة في شأن الدعم الأميركي لإسرائيل.
إن "رؤية ترمب للسلام والازدهار ومستقبل أكثر إشراقاً لإسرائيل والشعب الفلسطيني"، وهي خطة توقع معظم الإسرائيليين فشلها، لم تؤد قط إلى قبول الولايات المتحدة بتطلعات حكومة نتنياهو الرامية إلى توسيع السيادة الإسرائيلية في أنحاء الضفة الغربية، لكنها أصبحت العنصر المحفز لـ "اتفاقات أبراهام" التي كشفت علاقات إسرائيل السرية مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين إلى العلن.
وفي عام 2021 أوضح سفير الإمارات لدى الولايات المتحدة يوسف العتيبة، وأحد مهندسي الصفقة، المنطق وراء تلك الاتفاقات فقال إن "سبب حدوثها والطريقة التي حدثت بها ووقت حدوثها كانت لمنع الضم [ضم أراضي الضفة الغربية إلى إسرائيل]".
وهذا لا يعني أن العلاقات الأميركية - الإسرائيلية لم تكن تشوبها أية مشكلات، ففي عام 2017 أفشى ترمب عن معلومات استخباراتية إسرائيلية لروسيا، وربما كشف عن أساليب سرية لجمع تلك المعلومات، واتهم مراراً وتكراراً اليهود الأميركيين الذين يصوتون للمرشحين الديمقراطيين "بعدم الولاء للشعب اليهودي وبأنهم غير مخلصين على الإطلاق لإسرائيل"، ولم يؤد ذلك إلى ترسيخ إسرائيل كقضية مثيرة للنزاع وتعريض رعاية الحزبين للعلاقات الأميركية - الإسرائيلية الوثيقة للخطر وحسب، بل أثار أيضاً مشاعر معاداة السامية.
واستكمالاً لم يسهم انسحابه الأحادي الجانب من الاتفاق النووي الإيراني من دون خطة بديلة لعرقلة سعي إيران إلى الحصول على أسلحة نووية إلا في تسريع تقدم طهران، وفي ذلك الوقت شجع نتنياهو قرار ترمب ولكن يمكن القول إن هذه الخطوة جعلت إسرائيل أقل أمناً اليوم.
وعلى رغم المماحكات التي حصلت في البداية فإن دعم إدارة بايدن لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر الماضي، المثبت بالأقوال والأفعال، لا جدال حوله، وحضور المسؤولين المدنيين والعسكريين الأميركيين بصورة مستمرة في إسرائيل، وكثيراً ما شاركوا في المشاورات مع الهيئة الوزارية المصغرة والمعنية بالحرب.
وعلاوة على ذلك زودت الولايات المتحدة إسرائيل بجسور جوية عدة من القنابل والذخائر لكي تملأ مخزوناتها المستنفدة، وكذلك تدخلت واشنطن لمنع قرارات مجلس الأمن الدولي التي من شأنها فرض عقوبات على إسرائيل أو الإصرار على أن ينهي الجيش الإسرائيلي مهمته في غزة، ولفتت الانتباه إلى محنة الرهائن الذين تحتجزهم "حماس"، وعملت على تأمين إطلاقهم، وطالبت الدول الأخرى بإدانة أعمال العنف الجنسي التي ارتكبها مقاتلو "حماس" ضد الفتيات والنساء الإسرائيليات.
وفي حديثه في البيت الأبيض في الـ 10 من أكتوبر الماضي حذر بايدن أعداء إسرائيل من الانضمام إلى "حماس"، وقال "إلى أي بلد، وأي منظمة، وأي شخص يفكر في الاستفادة من هذا الوضع، لدي كلمة واحدة: إياك".
ومن بين جملة من زعماء العالم الذين نبهوا أيضاً من ارتكاب أي تصرف من هذا النوع كان بايدن هو الوحيد الذي عزز تحذيراته بإرسال مجموعتين من حاملات الطائرات ووسائل عسكرية أخرى.
وكان الدعم الثابت الذي قدمه الرئيس كبيراً وملحوظاً، بخاصة مع دخول الولايات المتحدة عام انتخاباتها وتعرض سياسة بايدن تجاه إسرائيل لانتقادات صريحة في بعض أوساط حزبه.
وفي المقابل بدأت الخلافات بين وجهات النظر الأميركية والإسرائيلية بالظهور مع دعوة الولايات المتحدة إلى "هدنات إنسانية تكتيكية" على وقع الصراع الدائر في غزة، والتي قد تمنح "حماس"، كما حدث خلال الهدنة من الـ 24 من نوفمبر إلى الأول من ديسمبر الماضي، الوقت لإعادة إنشاء خطوط الاتصال الداخلية وتغيير موقع قواتها من أجل شن هجمات إضافية على قوات الجيش الإسرائيلي وإطلاق الصواريخ على مدن إسرائيلية. (وقد رضخت الحكومة الإسرائيلية لهذه الهدنات وتوجد حالياً مفاوضات جارية في شأن هدنات مماثلة، في سبيل تسهيل إطلاق الرهائن).
كذلك استغلت "حماس" المناشدات الأميركية لإسرائيل بالسماح بدخول مزيد من الغذاء والوقود وغير ذلك من أشكال المساعدات إلى غزة، وعلى رغم أن حاجات المدنيين ملحة، تبين أن الجماعة الإرهابية تصادر تلك المساعدات من أجل الحفاظ على قبضتها على السلطة.
إن اعتراضات بايدن على "القصف العشوائي" الذي شنته القوات الجوية الإسرائيلية، وعلى الأعداد الكبيرة من الضحايا المدنيين في غزة أجبرت إسرائيل على إعادة ضبط هجومها، فأطالت مدته وعرضت الجنود الإسرائيليين لخطر متزايد وفق مزاعم بعض القادة الإسرائيليين.
لكن وبشكل عام استفادت إسرائيل كثيراً من شراكتها مع الولايات المتحدة، وفي الواقع أسهمت "اتفاقات أبراهام" في تعزيز دمج إسرائيل الرسمي في الشرق الأوسط مما أدى إلى تغيير الخريطة الإقليمية بطرق توطد أمن إسرائيل، وعلى رغم أن القتال في غزة أدى إلى تباطؤ وتيرة التطبيع إلا أن البحرين والمغرب والإمارات العربية المتحدة أشارت جميعها إلى أنها لا تنوي التخلي عن علاقاتها مع إسرائيل.
وبطريقة موازية أعرب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في اجتماع مع مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان في الـ 13 من ديسمبر الماضي عن اهتمامه بفكرة الانضمام إلى صفوف تلك الدول في نهاية المطاف.
لقد كان الدعم الكبير والدبلوماسي الذي قدمته الولايات المتحدة حاسماً في مساعدة إسرائيل في جهودها لاستعادة قدرات الردع في أعقاب كارثة السابع من أكتوبر، وقد أكد وزير الخارجية بلينكن في رسالة إلى الشعب الإسرائيلي في الـ 12 من أكتوبر "قد تكونون أقوياء بما فيه الكفاية للدفاع عن أنفسكم، ولكن طالما أن أميركا موجودة فلن تضطروا إلى فعل ذلك على الإطلاق".
إن كلماته المختارة بعناية لا تعترف بقدرات إسرائيل الدفاعية وحسب، بل تعزز أيضاً التزام الولايات المتحدة الثابت بأمن إسرائيل، ويسلط هذا التوازن الدقيق الضوء على الطبيعة التي لا غنى عنها للتحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل وسبب عدم قدرة إسرائيل على تحمل خسارة أفضل صديق لها.
لا ضمانات
لطالما كان الإسرائيليون ينسبون الدعم الأميركي القوي لبلادهم إلى مجموعة من القيم المشتركة، بما في ذلك الحرية والتعددية والديمقراطية، إلى جانب بعض المصالح المشتركة، مثل تعزيز السلام والاستقرار.
وهذه الأرضية بدأت تتغير الآن، بخاصة وأن الأميركيين الأصغر سناً يعبرون عن درجة أقل من التآلف والانسجام مع إسرائيل مقارنة بالأجيال الأكبر سناً، وربما يكون جو بايدن الذي أكد في أحيان كثيرة أنه "ليس من الضروري أن تكون يهودياً لكي تكون صهيونياً"، آخر رئيس ديمقراطي يتمتع بدعم لا جدال فيه لإسرائيل.
وفي الواقع ينبغي لهذا الاتجاه أن يشكل مصدر قلق لإسرائيل، وهو يقلقها فعلاً، والحقيقة الصارخة هي أن الدعم الذي تتلقاه البلاد من الولايات المتحدة لا مثيل له ولا يمكن استبداله، أما فكرة أن تتخذ إسرائيل الحيطة والحذر فتحذو حذو دول أخرى في الشرق الأوسط وتبني علاقات مع الصين وروسيا، العضوين الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة اللذين وقفا إلى جانب "حماس"، فهي ليست خياراً مطروحاً بالنسبة إلى تل أبيب. وأخيراً حتى بايدن نفسه بدأ بتلطيف تصريحاته حول الحرب في غزة، وفي خطاب ألقاه في الـ 12 من ديسمبر، أكد أن "أمن إسرائيل يمكن أن يعتمد على الولايات المتحدة"، لكنه أضاف أن إسرائيل بدأت تفقد الدعم في أجزاء أخرى من العالم، وفي الوقت نفسه دعت هاريس إلى اتباع نهج "أكثر صرامة" في طريقة تعامل واشنطن مع نتنياهو.
وعوضاً عن محاولة التقرب من الولايات المتحدة ربما يسعى نتنياهو في الواقع إلى إثارة خلاف معها من أجل تعزيز آفاقه وفرصه الشخصية للحصول على أدوار مستقبلية مع انخفاض معدلات تأييده، فهو أعلن أمام لجنة الشؤون الخارجية والدفاع بالكنيست في الـ 11 من ديسمبر الماضي أن "رئيس الوزراء الذي لا يستطيع الصمود أمام الضغوط الأميركية ينبغي ألا يتولى هذا المنصب"، ولكن الدخول في مشاجرات علنية مع الولايات المتحدة هو آخر ما تحتاج إليه إسرائيل في الوقت الحالي.
ومن أجل تجنب مستقبل تضطر فيه إسرائيل إلى مقاومة الأخطار الوجودية من دون القدرة على الاستعانة بالترسانات العسكرية الأميركية أو استخدام حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يجب على الساسة الإسرائيليين تغيير مسارهم.
أولاً عليهم أن يتوخوا الحذر في طريقة إدارتهم للحملة العسكرية في غزة، وفي الحقيقة كان إشراك أعضاء حزب المعارضة في حكومة الحرب خطوة مسؤولة في هذا الاتجاه، ومع استمرار الحرب يجب على الجيش الإسرائيلي أن يسعى إلى تحقيق أهدافه التي يؤيدها الإسرائيليون بغالبية ساحقة في أسرع وقت ممكن مع تقليل الأضرار الجانبية وتفادي إصابة الأبرياء، ومن أجل تحقيق هذه الغاية يجب على قيادة الجيش أن تكون دقيقة في تحديد الأهداف العملياتية المشروعة، وألا تسمح بتنفيذ الهجمات إلا عند استيفاء هذه المعايير.
كذلك يعد التزامها المستمر بالبروتوكولات والقوانين الأخلاقية في القتال أمراً ضرورياً، إذ إن إظهار الاحترافية والنزاهة من شأنه أن يساعد إسرائيل في تجنب تكرار حرب عام 2006 في لبنان، حينما أدى غياب تحقيق نصر إسرائيلي واضح إلى استنتاج الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش بأن إسرائيل "أساءت استغلال الفرصة [التي حظيت بها]" لتوجيه ضربة حاسمة ضد "حزب الله" وأسياده في إيران وسوريا.
إن إسرائيل بحاجة ماسة إلى إعطاء الأولوية للأمن القومي وتفضيله على السياسة، وفي ذلك الإطار يشار إلى أن الموازنة التكميلية لعام 2023 التي أُقرت في الـ 14 من ديسمبر، وكان من المفترض أن تغطي النفقات غير المتوقعة للحرب في غزة حولت أموالاً قيمة إلى بيروقراطيات غير ذات صلة، بما فيها وزارة القدس والتراث ووزارة الاستيطان والبعثات الوطنية، بهدف إرضاء الدوائر الانتخابية الرئيسة لائتلاف نتنياهو.
ويسود قلق واسع النطاق من أن موازنة 2024 ستتبع النمط نفسه من تخصيص الموارد لتوفير رعاية سياسية للأحزاب الدينية في الوقت نفسه الذي يُطلب فيه من الولايات المتحدة المساعدة في تعويض كلف الحرب.
واستطراداً، ألغى نتنياهو تصويت مجلس الوزراء للموافقة على تحويل إيرادات الضرائب إلى السلطة الفلسطينية والسماح للعمال الفلسطينيين من الضفة الغربية بالعودة إلى العمل في إسرائيل، وذلك من أجل تجنب الوقوع في ورطة مع الوزراء المتشددين الذين يتسامح بشكل عام مع تصريحاتهم وأفعالهم التحريضية، على رغم أن الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي [شاباك] ومجلس الأمن القومي تؤيد جميعها الإجراء المتعلق بتوظيف العمالة الفلسطينية، وبموجب شروط معينة، وعلاوة على ذلك، فإن استخدام رئيس الوزراء للخطاب التحريضي من أجل تعزيز شعبيته التي تراجعت بوضوح وفق ما تبين من استطلاعات
الرأي، سيؤدي إلى زرع الانقسام في وقت لا يزال الإسرائيليون في حداد على موتاهم، وهناك طريقتان واضحتان لكي يستعيد المواطنون الإسرائيليون والداعمون الخارجيون لإسرائيل ثقتهم في القيادة الديمقراطية في البلاد، وهما إصلاح العقد الاجتماعي المكسور الذي أدى في السابق إلى توحيد المجتمع الإسرائيلي المتنوع حول المبادئ اليهودية والديمقراطية المشتركة، وإجراء انتخابات برلمانية جديدة ما إن يسمح الوضع الأمني بذلك.
والنقطة الأخيرة والأكثر إلحاحاً هي أن إسرائيل بحاجة إلى بلورة موقف واضح في شأن القضية الفلسطينية، وعندما أنشئت دولة إسرائيل قبل 75 عاماً، كان عليها أن تواجه أخطاراً تهدد بقاءها، والآن يتعين على قادتها أن يحددوا بوضوح رؤيتهم لمستقبل البلاد.
ومن دون ذلك سيكون إقناع الولايات المتحدة ودول أخرى بالبقاء إلى جانب إسرائيل أمراً صعباً، وكذلك يتعين على نتنياهو أن يسمح بإجراء نقاش حقيقي، داخل حكومته ومع إدارة بايدن، حول ما سيأتي بعد الصراع في غزة، ويجب ألا يكتفي بتحديد ما ترفضه إسرائيل وحسب، بل أن يوضح أيضاً النتائج التي سترضى بها.
في الواقع كان رئيس الوزراء قد رفض محاولات إجراء هذا الحوار خوفاً من زعزعة استقرار ائتلافه الحاكم، وأعرب بايدن عن استيائه من هذا الوضع، فعلق في الـ 12 من ديسمبر الأول قائلاً إن نتنياهو "يجب أن يتغير لكن الحكومة في إسرائيل تجعل الأمر صعباً للغاية".
وسواء كانت إسرائيل تريد دولة واحدة أو دولتين أو أي شيء آخر، يتعين على قادتها ومواطنيها أن يقرروا المسار الذي سيسلكونه قريباً، وعليهم أن يدركوا أيضاً أنه بصرف النظر عن قرارهم، علماً أنهم وحدهم من يتخذون هذا القرار، ستترتب عواقب ليس على إسرائيل وحسب بل أيضاً على علاقتها الجوهرية مع الولايات المتحدة.
وإذا استاءت الولايات المتحدة من السياسات الإسرائيلية لدرجة أن تفرض واشنطن شروطاً على تقديم المساعدة العسكرية الأميركية فقد تجد إسرائيل بيئة عملها مقيدة بصورة كبيرة، ومن الممكن أن تكون مماطلة إدارة بايدن أخيراً في إرسال أكثر من 20 ألف بندقية من طراز "إم-16" مخصصة لفرق الدفاع المدني الإسرائيلية بسبب مخاوف الولايات المتحدة في شأن عنف المستوطنين في الضفة الغربية، بمثابة نذير لمزيد من العراقيل.
ومع تعهد "حماس" بتكرار وحشية السابع من أكتوبر الماضي إلى أن تمحى إسرائيل، وتصعيد "حزب الله" هجماته عبر الحدود الإسرائيلية مع لبنان، وتعطيل الحوثيين في اليمن الشحن الإسرائيلي في البحر الأحمر، واستمرار السعودية في تعليق قرارها حول إمكان التطبيع، فإن التحركات الإسرائيلية التالية قد تشكل العامل الحاسم الذي سيحدد ما إذا كانت الأوضاع متجهة نحو زيادة العنف أو التقدم نحو السلام.
عن الفورين أفيرز