في تاريخ إسرائيل، منذ إقامتها (1948)، يمكن ملاحظة حقب ثلاث شكلت هوية هذه الدولة، وتوجهاتها الأساسية، في السياسة والاقتصاد والأمن، على الصعيدين الداخلي والخارجي، بما في ذلك شكل تعاطيها مع الفلسطينيين والدول العربية المجاورة.
الأولى، وهي التأسيسية، التي قادها ديفيد بن غوريون (1886-1973)، وهو بولندي الأصل، شغل منصب رئاسة حكومات إسرائيل، في الفترة من 1948 إلى 1963 (باستثناء عامي 1954 و1955)، وتمكن من خلال موقعه هذا، وكزعيم لحزب "ماباي" (1930-1965) من التحكم في السياسة الإسرائيلية في مختلف المجالات، علما أن ذلك الحزب (الذي تغير اسمه إلى حزب "العمل" منذ عام 1968) هو الذي قاد دولة إسرائيل، طوال ثلاثة عقود، أي منذ إقامتها حتى عام 1977.
في قيادته لإسرائيل كان بن غوريون وراء حسم الموقف لصالح القبول بقرار "التقسيم" (1947)، وهو ما حصل مع توسيع المساحة المحددة لإسرائيل في مواجهة المتطرفين في الجماعات الصهيونية آنذاك. وفي عهده الأول تضاعف عدد سكان إسرائيل، سيما مع هجرة يهود البلدان العربية إليها، بخاصة من يهود اليمن والمغرب والعراق، وتطبعت إسرائيل بطابع بلدان "الاشتراكية الديمقراطية"، مع منظمة "الهستدروت"، و"الكيبوتزات" و"الموشاف"، والقطاع العام.
وهو صاحب القرار الحاسم بإنشاء الجيش الإسرائيلي، الذي تكون أساسا من منظمة "الهاجاناه" التي تتبع حزبه "ماباي"، مع حل المنظمات العسكرية الصهيونية، وإدماجها في الجيش، وضمنها منظمات "البالماخ" و"ايتسيل" و"ليحي"، وقد استخدم القوة في سبيل ذلك حين أمر بقصف الباخرة التالينا، المحملة بأسلحة لمنظمة "ايتسيل" (1948)، ما أدى إلى مصرع 16 من قوات "ايتسيل". وكان هذا القرار من أهم القرارات التي اتخذها بن غوريون، وأسهمت في استقرار دولة إسرائيل، بالنظر للمكانة المتميزة التي احتلها الجيش كالمؤسسة الأساسية في إسرائيل، وباعتبارها بمثابة "بوتقة الصهر" لمجتمع اليهود المستوطنين؛ هذا إلى جانب قراره بناء مفاعل نووي، بشكل مبكر، بمساعدة فرنسا، شكل بحد ذاته نقطة تفوق لصالح إسرائيل على جوارها.
على الصعيد الخارجي تميزت تلك الحقبة بأنها المرحلة التي خاضت فيها إسرائيل حروبها ضد الجيوش النظامية العربية (1956-1967-1973)، والمرحلة التي توسعت فيها مساحتها عدة أضعاف مع احتلالها شبه جزيرة سيناء والجولان السورية، وسيطرتها على كامل فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، وفيها بداية الاستيطان الإسرائيلية في الأراضي المحتلة (1967).
أيضا، في تلك الحقبة توطدت علاقة إسرائيل بالدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، وباتت ضمن معسكر الولايات المتحدة في الصراع ضد الاتحاد السوفياتي (السابق)، وفي هذين التطورين رسخت إسرائيل مكانتها كدولة إقليمية قوية في الشرق الأوسط.
الانقلاب على حقبة التأسيس
الحقبة الثانية، تمثلت بهيمنة اليمين القومي الإسرائيلي على السياسة الإسرائيلية، ممثلا بحزب "الليكود"، بقيادة مناحيم بيغن (1977-1983)، ثم إسحق شامير (1983-1992) باستثناء عامي 1985 و1986. وهي فترة شهدت بروز التصدعات أو التمايزات في المجتمع الإسرائيلي، مع صعود التيارات الدينية، والاستقطاب بين اليهود المتدينين واليهود العلمانيين، ثم الاستقطاب بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين، وبين اليسار واليمين، وبين دعاة "أرض إسرائيل الكاملة" (اليمين القومي والديني)، المعادين للتسوية مع الفلسطينيين، ودعاة "وحدانية شعب إسرائيل" (حزب العمل والأحزاب اليسارية) من دعاة التسوية، للحفاظ على يهودية الدولة وديمقراطيتها.
وفي هذه المرحلة بدا أن إسرائيل تشهد إرهاصات تحول مهمة، بما يمكن عده بمثابة انقلاب على الحقبة التأسيسية، إذ اختفى تقريباجيل "الروّاد" من المستوطنين الأيديولوجيين المؤسسين: الزراعيين والعسكريين، الذي عمل على إقامة الدولة الصهيونية، وظهرت أجيال أخرى بكل ما لهذه المسألة من معانٍ تتعلّق بتغيّر طبيعة الحراك الاجتماعي السياسي الاقتصادي الأيديولوجي، في إسرائيل، ما أدى إلى حصول تغيرات مهمة في المجال الثقافي-القيمي في المجتمّع الإسرائيلي، بخاصّة لدى فئات الشباب، حيث باتت العادات الاستهلاكية والأفكار الليبرالية البرغماتية، والروح الفردية، تنتشر في هذه الأوساط، حتى إنه ثمة حديث عن تسارع مسار "الأمركة" بين الإسرائيليين (المأكل والملبس والموسيقى واللغة الإنكليزية)، وهذه ليست ظاهرة غريبة في هذا المجتمع، بسبب انتمائه للغرب أساساً، وبسبب تقدم مستوى المعيشة والاتصال المستمر بنمط الحياة الغربية.
عموما، شهدت هذه الفترة تراجعا في دور القطاع العام والمشترك لصالح النمو المتزايد للقطاع الخاص، وتآكل تدخل الحكومة في العمليات الاقتصادية، وتراجع الحكومة عن جزء كبير من التقديمات الاجتماعية، وتزايد حصة قطاع "الهاي تيك" والتكنولوجيا العالية في الاقتصاد، على حساب الصناعة والزراعة. وفي الحقيقة فإن هذه التأثيرات عبّرت عن ذاتها، في إسرائيل، بتراجع الأيديولوجيا والسياسة لصالح التوجهات الليبرالية وتنامي الهويات الأصلية، وضمور الأحزاب المركزية الكبيرة، مثل "العمل" و"الليكود"، وبروز دور الأحزاب الصغيرة، الإثنية والشخصية والمطلبية، كما تراجع دور المؤسسات الجمعية مثل: "الهستدروت" و"الكيبوتزات" والمؤسسة العسكرية والنقابات والقطاع العام، لصالح القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني، وقد ساهم في ذلك اندماج إسرائيل في السوق العالمية والتوجه نحو خصخصة قطاعات الإنتاج وتحرير السوق وتقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية وفي مجال الخدمات الاجتماعية.
من ناحية أخرى، هذه الفترة شهدت أفول الصراع العربي-الإسرائيلي، رسميا، مع عقد اتفاق كامب ديفيد 1979، وتدمير المفاعل النووي العراقي 1981، وانعقاد مؤتمر مدريد (1991) للتسوية، والذي أفضى إلى اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين 1993، لكنها شهدت، أيضا، حروب إسرائيل في لبنان، والتي توجت بغزو لبنان 1982، وإخراج قيادة "منظمة التحرير الفلسطينية" وقواتها منه، كما شهدت اندلاع الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى (1987-1993)، التي فرضت إقامة كيان فلسطيني في الضفة والقطاع وفقا لاتفاق أوسلو.
حقبة نتنياهو
الحقبة الثالثة هي حقبة نتنياهو، بكل معنى الكلمة، فهو الشخص الذي شغل موقع رئيس الحكومة في إسرائيل، أكثر من أي شخص آخر، وحتى أكثر من المؤسس بن غوريون (14 عاما)، إذ شغل موقع رئيس الحكومة في فترات ثلاث، الأولى 1996-1999، الثانية 2009-2021، الثالثة من أواخر 2022 حتى الآن، بمجموع 17 عاما.
وهذه الحقبة تميزت بصعود التناقضات الداخلية في إسرائيل، أكثر من أية مرحلة سبقت، وفي مقدمتها التناقض بين تياري المتدينين والعلمانيين، بخاصة بسبب تعزيز التحالف بين اليمين القومي والديني، وصعود دور المستوطنين الأيديولوجيين في السياسة الإسرائيلية، ومحاولة تعزيز طابع إسرائيل كدولة يهودية على حساب طابعها كدولة علمانية، في نظام الليبرالية الديمقراطية (نسبة لمواطنيها اليهود)؛ وهو ما تم التعبير عنه في المصطلحات الإسرائيلية بمقولة إن "دولة يهودا سيطرت على دولة إسرائيل"، في إشارة إلى هيمنة اليهود المتدينين والقوميين المتطرفين من دعاة الاستيطان في "أرض إسرائيل الكاملة".
لذا يمكن اعتبار فترة نتنياهو، بخاصة في حقبته الثالثة، أكثر فترة شهد فيها المجتمع الإسرائيلي تصدعا بين مكوناته (أو "قبائله") الإثنية والأيديولوجية، لأسباب داخلية، وأكثر فترة قامت فيها مظاهرات ضد حكومة إسرائيلية، الأمر الذي لم يخفف منه سوى شد عصب الإسرائيليين على محور الصراع الخارجي، في حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين، ثم على لبنان، بعد عملية "طوفان الأقصى" (7/10/2023)، التي روج لها بين الإسرائيليين باعتبارها حربا على الوجود.
وكما شهدنا، فقد تمثل هذان المساران، أولا، في إصدار الكنيست لقانون أساس يقضي بأن إسرائيل هي دولة قومية لليهود (2018)، الأمر الذي يقضم من مكانة المواطنة لفلسطينيي 48 وحقوقهم، الفردية والجماعية، ويضعهم في مكانة دونية في إسرائيل، ما يتناسب مع حقيقتها كدولة استعمارية وعنصرية. ثانيا، في محاولة حكومة نتنياهو، وسموتريتش، وبن غفير، تغيير النظام السياسي في إسرائيل، أو الانقلاب عليه، بتقويض السلطة القضائية، عبر تحجيم مكانة المحكمة العليا، والتخفّف من دورها في الرقابة على الحكومة.
تميزت حقبة نتنياهو، أيضا، بتقويضها اتفاق أوسلو (1993)، الذي عقدته إسرائيل مع الفلسطينيين، ومحاولتها شطب الفلسطينيين من المعادلات السياسية، وتاليا الإطاحة بمسار نشوء دولة فلسطينية في الضفة وقطاع غزة، عبر تعزيز الاستيطان في الأراضي المحتلة، وفرض حصار مشدد على قطاع غزة، وخلقها واقعا جغرافيا وديموغرافيا وأمنيا وسياسيا يقطع أوصال الضفة، ويفصل غزة عنها؛ وهي الحكومة التي شنت حرب إبادة جماعية غير مسبوقة، ضد الشعب الفلسطيني، منذ أواخر 2023، والتي شملت لبنان أيضا (أواخر 2024).
وعن ذلك يقول ألوف بن: "منذ دخول نتنياهو إلى السياسة، كان لديه ثلاثة أهداف: البقاء في السلطة أطول وقت ممكن، واستبدال النخب في إسرائيل، وتفكيك الحركة الوطنية الفلسطينية. يمكنه أن يراوغ ويكذب، ويطرح أفكاراً متناقضة بالدرجة نفسها من الاقتناع، لكنه دائماً ما يعود إلى الثلاثية نفسها: رئاسة الحكومة، والتحريض ضد "اليسار"، وتأبيد الاحتلال في الضفة". ("هآرتس"- 5/9/2024).
باختصار، فإن نتنياهو قد أحدث نقلة كبيرة ونوعية في طبيعة إسرائيل، وصورتها، ومكانتها على الصعيدين الإقليمي والدولي، ولا يمكن لأحد التكهن بمآلات تلك النقلة، وما إذا كان المجتمع الإسرائيلي سيهضمها أم سيلفظها، ولا التكهن بالكيفية التي ستتموضع فيها إسرائيل في الإقليم وعلى صعيد علاقاتها الدولية، خصوصا بعد أن باتت تعرف كعبء سياسي وأمني ومالي وأخلاقي، كدولة تمارس الإبادة الجماعية، وكدولة استعمارية وعنصرية، وبعد ظهور انشقاقات في المجتمعات اليهودية في الغرب تجاه سياساتها.