نحن الآن أمام اتفاق لوقف القتال سعى به المبعوث الأمريكي اموس هوكستين منذ شهور، أُعلن ونُفذ بساعات. خاتمة تماثل كل حروب لبنان المريرة مع إسرائيل، إنها نهاية هيروشيما. حزب الله الذي أعلن مساندة المقاومة الفلسطينية، بمشاغله عسكرية لا تتجاوز قواعد الاشتباك، حتى وقع الأسوأ وتطور التصعيد الإسرائيلي بتنفيذ الاغتيالات لتطال رأس الحزب والعديد من قياداته، ظناً أن هذا قد يؤثر على عزيمة المقاتلين، ولكنها بالاجتياح البري فوجئت إسرائيل بمقاومة على الأرض فاقت كل الحروب السابقة.
إسرائيل تعتمد على الميدان، قصف وقتل لتكريس انجازات معينة وخلق بنية سياسية قائمة عليها، وينظر إلى هوكستين باعتباره مبعوث إسرائيلي يحاول أن يفرض على اللبنانيين رؤية إسرائيلية أمريكية بالاستناد إلى المعطيات الميدانية، ومع انخفاض توقعات إسرائيل التي رفعها نتنياهو على المستوى السياسي وعلى المستوى العسكري، عندما تحدث عن أهداف تكتيكية وأهداف استراتيجية في لبنان فهو لم يحقق حتى الأهداف التكتيكية، لم يستطع اعادة سكان الشمال فقط، ومشهد عودة سكان الجنوب إلى قراهم وبيوتهم أثار غضب المستوطنين "إنهم عادوا، ولم نعد، إنه العار"، عشرات الآلاف منهم فروا من مستوطناتهم في الشمال هرباً من صواريخ حزب الله، أو مدفوعين بكابوس تكرار عملية طوفان الأقصى، فكيف له بإنشاء منطقة عازلة وخلق بيئة أمنة في الجنوب أو تدمير قدرات حزب الله ونزع سلاحه والشعارات حول المعابر وتغيير واقع لبنان السياسي وترتيب لحكم جديد في لبنان ينسجم مع رؤية نتنياهو للمنطقة بما يخدم الحلم الإسرائيلي بتغيير الشرق الأوسط، كل هذه الأهداف التكتيكية والاستراتيجية سقطت على أعتاب المقاومين وصمودهم، بعد أن استعاد حزب الله قدراته العسكرية وقدرته على ترميم أوراقه من جديد، واشغال العمق الإسرائيلي كله بضغط الحرب وثقلها وتهديد قلب إسرائيل، حزب الله اتخذ طابعاً تصعيدياً يوماً بعد يوم إلى أن وصل إلى مستوىً غير مسبوق، وبمسارات متوازية من حيث الشكل والأسلوب وليس بالضرورة من حيث القوة والقدرة، مما دفع إسرائيل إلى تقييم استراتيجيتها والتراجع والذهاب إلى مثل هذا الاتفاق، فضلاً عن دوافع مرتبطة بالجيش الإسرائيلي وبمقدراته.
(58) يوماً تعرض لبنان وحزب الله لضربات قوية وعنيفة، انها ليالي جهنم، سعى لاتفاق لوقف القتال ويحفظ ما بقي له، بينما ينظر حزب الله باهتمام وحزن عن فك ارتباطه بإسناد غزة، مرده أن مشاركة الألم يخففه، وفيما كانت الحرب وفيما انتهت الحرب، وهو الوحيد الذي وقف مع غزة واندفع لمعركتها بلا حساب رغم فداحة الخسارة، لم يختر الحزب معركته، ولبنان قد يكون الضحية الكبرى لذلك الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يقول الحزب "إنه فعل ما استطاع في دعم غزة حتى شنت عليه حرب مدمرة سقط فيها عشرين ألف لبناني بين شهيد وجريح وسط خذلان عربي واسلامي صادم"، وقد نختلف حول تلك الحرب، ويفترض أن نختلف حول التوقيت، أو حول التقدير، وفق الاتفاق سينتشر الجيش اللبناني ويتراجع حزب الله نحو 30 كم من الحدود، أما الواقع فإن الابتعاد عن الحدود لا يعطل صواريخ الحزب وقد ظهر أنه يحتفظ بترسانة منها وبقي الحزب بالكثير من قوته، ولكنه سيرقب إلى مستقبل تسليحه في حال تضيق الخناق عن امداداته، هذا الاتفاق يتضمن بشكل صريح اذا تم تنفيذه انتهاء حزب الله كقوة عسكرية في لبنان ومنع أي أسلحة أو ذخيرة تدخل إليه، ولكن السؤال هل يتم تنفيذه؟؟ وقد يراهن الحزب على عدم تنفيذه.
اتفاق لا يجلب الأمن لإسرائيل وبالتالي يمكن التوقع أنه اتفاق تكتيكي مرحلي مدته ستون يوماً استعداداً إلى فصل جديد من المواجهات، لو كان هذا الاتفاق يراد منه الديمومة لما زج فيه بند من البنود الخطيرة وهو البند الذي يشير بسوء نية إسرائيل، "حق الدفاع عن النفس للطرفين" بصيغة تبدو مقبولة للطرفين، وهو محاولة للتحايل على الشرط الذي رفضه لبنان وحزب الله حول حق إسرائيل الدخول إلى لبنان وتنفيذ عمليات متى شاءت، ويعتمد على الضمانات الأمريكية التي تتجاوز الاتفاق وتعطي إسرائيل مزيداً من الانتهاكات، ويضمن لها حق العودة والدفاع، وحق التحليق والتعاون الاستخباراتي في حال الخرق وتشخيص أي عمل يهدد أمن اسرائيل، وباعتبار أن حزب الله يسعى إلى وقف اطلاق النار، ولبنان كله معني بذلك، والطرف الأخر الذي يلوح دائماً باستئناف العمليات العسكرية، سيتخذ مثل هذا البند كذريعة لإعادة تأجيج الصراع اذا رأى أن التأجيج يصب في مصلحته، إسرائيل تريد فرض الأمر الواقع عبر البقاء في بعض القرى المحتلة بالشريط الأمامي ومنع عودة النازحين إلى بيوتهم وفرض التدخل الجوي فهي لم تترك الأجواء اللبنانية، إضافة إلى الخروقات الإسرائيلية التي لم تتوقف.
فإسرائيل لا تريد الالتزام بالاتفاق والعودة إلى الحرب، والمرحلة القادمة مرتبطة بعاملين كيف ستتحول الخلافات في الداخل الإسرائيلي إلى موضوع أكثر ضغطاً على نتنياهو للتراجع عن الخطوة التي أقدم عليها، والآخر مرتبط بالاستراتيجية الأمريكية في مرحلة ترامب، وما الذي سيحمله في هذا الملف والملف الإيراني، ترامب سيكون أكثر تجاوباً مع إسرائيل سواء في لبنان أو في غزة، وهنا لا أتحدث عن العمليات العسكرية، ولكن عن الأهداف الاستراتيجية واحياء صفقة القرن واعادة الاستيطان في غزة والضفة، وتوجيه ضربة قوية للبرنامج النووي الإيراني.
فيما يرد فلسطينيون على مباهاة استفراد نتنياهو بغزة بالتساؤل ماذا عساه أن يفعل من إبادة بإسناد أو دون إسناد، مع تمنيات بوقف الحرب بغزة أسوةً بلبنان، فلا سلام في المنطقة دون حل عادل للقضية الفلسطينية، فهي محور الصراع مثلما هي محور السلام.