أولوية التوازن بين الأمن والسياسة
إن سوريا اليوم تقف على مفترق طرق حاسم، فإذا أردنا بناء مستقبل مستقر وسلمي، فلا بد من التعامل مع الأزمة السورية على أنها مسألة وطنية، تتطلب تجاوز المصالح الإقليمية والدولية التي تزيد من تعقيد الوضع. يجب أن يشمل أي حل سياسي حقيقي استبعاد القوى الظلامية والارهابية، وإشراك القوى الوطنية الديمقراطية في العملية السياسية من أجل إعادة بناء سوريا، بحيث يكون للشعب السوري كلمته في تقرير مصيره بعيداً عن التدخلات الخارجية وبعيداً عن اجراءات احتكار السلطة تحت شعار وحدانية الحزب الحاكم، وهي بالمناسبة شكلٌ من الأمراض التي عانت وما زالت حركات التحرر أو أحزابها تعاني منها بعد مراحل سياسية وقد افقدتها بريقها.
وبينما اليوم غزة تنزف كما نَزفَ لبنان رغم قصص الصمود وبطولات المقاومة، وسوريا يتم دفعها نحو مرحلة جديدة من الخراب وما يناسبها من وسائل الدمار، والعراق والأردن على عتبة مستقبل مجهول، لكن السؤال الأكبر يبقى، لماذا يحدث كل هذا الآن؟
منذ عقود، عملت القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة على إعادة تعريف هوية منطقتنا من "المشرق العربي" إلى "الشرق الأوسط". كان هذا المصطلح بداية مشروع لإدماج إسرائيل في هذه المنطقة، ليس فقط ككيان موجود على أرض محتلة بل كلاعب رئيسي سياسي وعسكري.
اليوم يبدو أن هذا المشروع يسير بخطوات المراحل الأخيرة. محاولات تشكيل تحالفات عسكرية بقيادة أمريكية، وتوسيع النفوذ الإسرائيلي سياسياً وعسكرياً، ليست سوى امتداد لرؤية قديمة تهدف إلى تفكيك الدول العربية وفق ما تم الاتفاق عليه من خرائط سايكس بيكو وإعادة تشكيلها من جديد بما يخدم مصالح الغرب وإسرائيل المتجددة.
ما يجري الآن في سوريا وربما قريباً في العراق والأردن، ليس سوى استكمال لهذا المشروع. تفكيك الدول العربية وإضعاف جيوشها وخلق صراعات داخلية طويلة الأمد هي الوسائل التي تُستخدم لتثبيت الهيمنة الإسرائيلية وضمان تفوقها العسكري والسياسي في المنطقة إلى جانب شريكتها الولايات المتحدة.
يمكننا ربط ذلك بمحاولة استكمال مشروع ما سُمي "بالربيع العربي"، مع تسليط الضوء على دوره الحقيقي كخريف عربي أدى إلى حالة من الفوضى والتفكك في العالم العربي، حيث تم استغلال الإسلاموية الظلامية آنذاك كأداة.
ما بدأ آنذاك كدعوات للإصلاح السياسي والاقتصادي في 2011 تحوَل سريعاً إلى مشروع فوضوي مدمر، حيث لعبت الجماعات الإسلاموية الظلامية دوراً مركزياً في تقويض استقرار الدول العربية. الشعوب التي كانت تتوق إلى الحرية والديمقراطية والتقدم وجدت نفسها عالقة في دوامة من الحروب والانقسامات الطائفية والإثنية.
اليوم يبدو أن هذا المشروع لم ينتهي، فإذا كانت البداية قد استهدفت دولاً مثل ليبيا وسوريا وتونس ومصر، فإن المرحلة الجديدة تستهدف إعادة تشكيل المشرق العربي بأسره، من غزة وسوريا إلى العراق وربما الأردن. الهدف واضح وهو تفتيت الدول إلى كيانات صغيرة وضعيفة، وتكريس الهيمنة الإسرائيلية والأمريكية على المنطقة.
النيران التي تأكل غزة اليوم ليست سوى جزء من سلسلة متصلة تستهدف المشرق العربي. سوريا إضافة إلى لبنان التي دفعت ثمناً باهظاً خلال العقد الأخير تواجه الآن محاولات جديدة لإعادة تشكيل نظامها السياسي والجغرافي بما يخدم مصالح القوى الإقليمية والدولية.
المشروع الذي استُخدمت فيه الجماعات الإسلاموية في العقد الماضي يأخذ اليوم شكلاً جديداً ومرعباً، حيث يتم استغلال الانقسامات الداخلية والضغوط الخارجية لتفكيك ما تبقى من الدول العربية.
برأيي فأن ما يحدث اليوم في المشرق العربي يشبه إلى حد كبير ما شهدته أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. دول تفككت، وصراعات إثنية تم اشعالها ونفوذ غربي ترسخ على حساب الشعوب.
انهيار الاتحاد السوفيتي لم يكن مجرد حدث جيوسياسي، بل كان بداية لإعادة توازن القوى في النظام الدولي لصالح الولايات المتحدة وحلفائها. واليوم يبدو أن المشرق العربي يمر بمرحلة مشابهة، حيث يتم تفكيك الدول وإعادة رسم الحدود بما يخدم أجندات خارجية.
إن استكمال مشروع "الخريف العربي" سيعيد ترتيب التوازنات الإقليمية بما يخدم مصالح إسرائيل والولايات المتحدة. إسرائيل ستستفيد من تفكك الدول المحيطة بها لتصبح القوة الوحيدة القادرة على فرض شروطها في المنطقة، بينما تُكرس الولايات المتحدة هيمنتها في مواجهة أي قوى إقليمية أو دولية منافسة في منطقتنا وهو ما يرتبط بأهداف إشعال الحرب بالوكالة في أوكرانيا ضد روسيا وكذلك الاستفزاز بحق الصين.
إن ما يجري في غزة وسوريا يؤكد أن الشعوب العربية تواجه تحدياً وجودياً مشتركاً. التحدي ليس مجرد صراع ضد الاحتلال أو الهيمنة، بل صراع على حقنا في البقاء كشعوب عربية متماسكة تسعى لمشروع قومي عربي تقدمي في مواجهة المشروع الصهيوني الكولنيالي الذي أنشأ الدولة المارقة في قلب العالم العربي، بل وحتى ضد تلك المجموعات الإسلاموية السياسية الاجتماعية التكفيرية.
الحل لا يكمن في انتظار الحلول الخارجية، بل في توحيد الصفوف والعمل على مشروع عربي تقدمي مقاوم وعقلاني يضع مصلحة الشعوب العربية فوق كل اعتبار. فالمقاومة ليست فقط سلاحاً في يد المقاتلين، بل موقف سياسي وثقافي وشعبي يرفض الخضوع والخنوع.