لم يعد الصراع السياسي في سوريا بيد السوريين، على جبهتي النظام أو معارضيه منذ سنوات عديدة، إذ باتت أطراف خارجية، دولية وإقليمية، تتحكم في هذا الأمر، كل بحسب حجمه وقدراته وموقعه، بعد التحول من الصراع في سوريا إلى الصراع عليها، ما يفيد بحصول تداخل بين المسألتين، كما بينهما، والصراع على تشكيل المشرق العربي، تبعا للتداعيات الناجمة عن حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل، ولا زالت، في غزة ثم في لبنان.
وفي نقاش الوضع السوري، نحن إزاء مسألتين متمايزتين لكنهما متداخلتان، يصعب الفصل بينهما. الأولى، تخصّ الصراع السوري في بعده الداخلي. والثانية، تخصّ الخريطة السياسية والأمنية المتشكلة في المنطقة، وأوزان وتموضع الفاعلين الدوليين والإقليميين فيها.
في المسألة الأولى، يفترض توضيح طبيعة النظام السوري، التي يتغاضى عنها البعض، فهو يحكم البلد منذ ستة عقود، والرئيس الحالي له في الحكم 25 عاما، علما بأنه أتى إلى ذلك المنصب بعد والده، ويفيد ذلك بأن هذا النظام يهيمن على البلد والدولة والمجتمع منذ أمد طويل، لذا فمن البديهي أنه المسؤول عن تردي أحواله السياسية والاقتصادية والأمنية، وافتقاد السوريين إلى حقوق المواطنة، وإلى حركة سياسية حية، ومجتمع مدني فاعل، وهي الأوضاع التي أدت إلى الانفجار الحاصل منذ مطلع عام 2011، كثورة، أو كانتفاضة شعبية سلمية.
المشكلة هنا أن النظام لم يلتقط خطورة ما يجري في حينه، وأحاله إلى مؤامرة خارجية، في إنكار لمصادر ومشروعية التمرد الداخلي، وخروج الناس إلى الشوارع، لذا لم يبادر إلى اقتراح أي حل سياسي، بل انتهج الحل العسكري، وقد تفاقم الوضع أكثر مع إدخاله إيران (وميليشياتها وفي مقدمتها "حزب الله" اللبناني)، ثم روسيا، في معركته.
من الجهة الأخرى، وبسبب حرمان السوريين من السياسة، وافتقادهم لقوى سياسية مجربة وقوية، سرعان ما تم تحويل أو أخذ ثورتهم أو انتفاضتهم أو حراكهم الشعبي السلمي إلى العمل المسلح، بحكم الدعم والتشجيع الخارجيين، لمآرب تخدم أطرافا دولية وإقليمية، أكثر مما تخدم مصالح السوريين، مما أضر بالشعب السوري، وبإجماعاته الوطنية، وبسلامة مساره نحو التغيير السياسي المنشود. علما أنه ليس ثمة أي تناسب بين دعم إيران وروسيا اللامحدود للنظام سياسيا واقتصاديا وعسكريا، والدعم المحدود، والمحسوب، الذي تلقته فصائل المعارضة العسكرية من الأطراف الخارجية، التي يمكن تمييز تركيا وقطر من بينها.
في المحصلة، أجهضت ثورة أو انتفاضة السوريين، من خارجها ومن داخلها، مع التنكر لمطالبها المشروعة والعادلة بالتغيير السياسي والمواطنة والديمقراطية، وفوق ذلك تم تشريد نصف السوريين، داخل سوريا (في الشمال)، وخارجها. كما نجم عن ذلك تقسيم سوريا، إلى عدة مناطق نفوذ، فالنظام الذي تناقصت سيادته في أراضيه، بات مع شركائه (ميليشيات إيران والقوات الروسية) يسيطر على المدن الرئيسة في الساحل وفي الداخل، وثمة فصائل المعارضة بكل ألوانها وتبعياتها في الشمال، وشمال غربي سوريا (محافظة إدلب)، وقوات "قسد"، الكردية، المدعومة من الولايات المتحدة في شرق الفرات. هكذا بات السوريون في نكبة، نتيجة الخسائر البشرية المهولة، والتشرد والنزوح وخراب العمران، وفقدان موارد الرزق، وتدهور أحوالهم الاجتماعية والمعيشية وتفرق شملهم داخل سوريا وخارجها.
بيد أن هذا الأمر قد تفاقم على الجهتين، فالنظام لم يبال بانتقاص شرعيته وضعفه، ولا بتدهور أحوال السوريين في المناطق التي يسيطر عليها، ولا بملايين اللاجئين الذين شردوا، وضمنهم أكثر من مليوني نازح في الشمال، وهم يشكلون بمفردهم بيئة قابلة للانفجار في أي وقت، على خلفية أحوالهم التي تبعث على القهر والغضب والتمرد، سيان تم تحريكهم وفقا لخلفيات يسارية أو وطنية أو علمانية أو دينية. في حين تهمشت وتهشمت المعارضة، ولم تستطع بناء كيان سياسي جامع، ولا صوغ رؤية وطنية جامعة، ومستقلة عن الارتهانات الخارجية، كما لم يستطع السوريون في الخارج التعبير عن ذاتهم وتنظيم أوضاعهم، كما افتقدوا لقوى وكيانات سياسية تشكل منبرا أو إطارا لهم.
القصد أن ثمة عطالة سورية يتحمل مسؤوليتها الطرفان، وبخاصة النظام، فهو لم يتقدم بأي مبادرة للإصلاح السياسي تستجيب لمطالب المعارضة، حتى إنه لم يطرح أي مبادرة للسوريين اللاجئين والنازحين، تمكنهم من العودة الآمنة إلى بيوتهم، وممتلكاتهم في سوريا، بل إنه لم يفرج عن ألوف المعتقلين عنده منذ سنوات، ومن دون أية محاكمات.
تلك هي المقدمات الداخلية، التي تكمن وراء الموجة الثانية، أي الحالية، من الصراع السوري، التي تفسر لنا مسألة تداخل العاملين الذاتي/الداخلي، والموضوعي/الخارجي. فمن وجهة نظر الفصائل العسكرية التي جمّدت أو جُمِّدت فعاليتها، وظلت لسنوات تحتفظ بمواقعها في شمال وشمال غربي سوريا، بدا أن ثمة ظروفا تسمح لها بالتحرك للضغط على النظام أو لتحسين مكانتها، ضمنها انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية، ومغادرة القوة الأساسية لـ"حزب الله" سوريا إلى لبنان، ووجود قرار دولي وإقليمي وعربي، بتحجيم أو تقليص، نفوذ إيران وميليشياتها في المنطقة، بعد انتهاء الاستثمار الأميركي (والإسرائيلي) بسياساتها في تخريب بلدان المشرق العربي، من العراق إلى سوريا ولبنان، بفعل صدمة "طوفان الأقصى".
بيد أن العامل الحاسم تمثل في توفر إرادة تركية للتحرك العسكري، ربما بضوء أخضر أميركي، للضغط على النظام الذي لم يتجاوب في السنوات الماضية مع دعوات تركيا للتطبيع، وحل مشكلة اللاجئين السوريين فيها، ومشكلة قوات "قسد"، علما أن النظام لم يتعاط بشكل جدي ومسؤول مع "مفاوضات جنيف"، أو مخرجات مفاوضات "آستانه" أو مؤتمر "سوتشي"، ولا "مباحثات اللجنة الدستورية". وهو أصلا لم يتجاوب سابقا، مع بيان جنيف 2012، ولا قرارات مجلس الأمن الدولي خاصة 2118 (2013) و2254 (2015)، فقد أجهض المساعي التي بذلت في دمشق في البداية (2011) لإيجاد حل سياسي، في مؤتمر "فندق سميراميس" ومؤتمر "مجمع صحاري" (الذي ترأسه حينها نائب الرئيس فاروق الشرع).
هكذا حصل ما حصل مؤخرا، من اشتعال الصراع العسكري المكلف والمروع والمدمر، لأسباب داخلية وخارجية، وأسهم في ذلك، وهن وعطالة كل من النظام والمعارضة، وهشاشة الجيش، وتعب مجتمع السوريين، في الداخل والخارج، وهيمنة الفاعلين الخارجيين على الصراع السوري (إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة).
مفهوم أن الأمور تجري كما تجري عليه في الواقع، وفقا لإرادة الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين، مع ذلك ينبغي قول ما يجب قوله، وهو أن الصراع السوري الذي يتحمل مسؤوليته الأساسية النظام القائم، يحتاج إلى حلول سياسية، تتأسس على وحدة سوريا في دولة مؤسسات، وقانون يحتكم لسيادة مواطنين أحرار ومتساوين في نظام ديمقراطي. أما الحل العسكري، وضمنه وجود قوى عسكرية أجنبية، فهذا طريق لا يؤدي إلا إلى استمرار نكبة السوريين، وتكريس تفكك البلد والدولة والمجتمع، الأمر الذي لا يخدم إلا قوى الاستبداد والتسلط والفساد، والقوى الخارجية بمختلف الجبهات، وهو حل مدمر لسوريا ولكل السوريين.