غادر بشار الأسد، وحتى كتابة هذه السطور الساعة التاسعة صباحاً، لم يكن عُرف مصيره بالضبط.
هل تحطمت طائرته في مكان ما؟
أم هبطت بسلام في مكان ما؟
وحالته هذه ذكرتنا بما يشبه حالة زين العابدين بن علي.
طائرة "الزين" هبطت في السعودية وبمعية الرئيس السيدة حرمه ليلى طرابلسي، أمّا السيدة أسماء الأخرس زوجة الرئيس بشار، لم تكن معه في الطائرة فهي على سرير العلاج في موسكو.
قد يلتحق بها أو يلبي دعوةً مبكرةً كانت وجهت إليه من دولة الإمارات باستضافته لاجئاً بعد تخليه عن السلطة.
لم يعد مصير الأسد حياً أو ميتاً مؤثراً في واقع سوريا، وما سيكون عليه اليوم التالي، إثر السقوط الانتحاري لنظامه.
ما نعرفه حتى الآن، أن الابتهاج الشعبي الذي ظهر بعد كل انسحابٍ من مدينة كان يحكمها بشار، كان ابتهاجاً بسقوط الاستبداد، وليس مبايعةً للذين احتلوا واجهة إسقاطه.
يوم الابتهاج، ستليه حتماً أيام القلق، فالذين تصدروا واجهة الإسقاط، وخدمهم الانتحار المتسلسل للنظام، هم مليشيات غير متجانسة من داخلها، وليس لأي فصيلٍ من فصائلها أي تجربة في حكم بلد، فما بالك بسوريا التي ستحتاج إلى وقت طويل لغسل جسدها وروحها من تراكمات مآسي نصف قرنٍ من حكم الأسد الأب وأبناءه وضباط طائفته، هو نصف قرنٍ أُرّخ له بالجثث والدمار الشامل والمهجرين، وافتتاح رقم قياسي من السجون في تاريخ سوريا والمنطقة.
الابتهاج بالسقوط أمرٌ بديهي عاطفي وشرعي، غير أن الأكثر شرعية ومنطقية، هو القلق على مصير بلد وشعب، سقط فيه حكم استبدادي شاذٌ طويل الأمد، على يد فصائل تتشارك مع النظام في مثلبة التبعية للخارج.
النظام كان تابعاً لمن حموه وأنقذوه، الروس والإيرانيين، أمّا الذين أسقطوه فهم تابعون لدولٍ الظاهر منها تركيا، إذ لولا دعمها لما خرج "الثوار" من إدلب إلى جوارها.
انتحر نظام بشار بعد أن أُغلقت أنابيب التنفس الاصطناعي الخارجي عن رئتيه، حاول البعض مد عمره لأسابيع لتدبر الأمور بعده، إلا أن هذه المحاولة فشلت مما عجّل من الذهاب إلى حتمية الانتحار كمخرج لا بديل عنه من الحالة البائسة التي آل إليها.
جرى تبادل للأدوار على ساحة سوريا، خرج الإيرانيون ومن المفترض أن يكونوا فهموا مغزى بتر ذراعيهم الأساسيين، حزب الله ونظام بشار، وسيخرج الروس مودعين نفوذاً قلقاً أسسوه فوق رمال الشرق الأوسط المتحركة، لتحل محلهم تركيا الأطلسية التي تعجل "الثوار" في رفع علمها على قلعة حلب.
ذلك يقابله وجودٌ أكثر فاعلية على الحدود الجنوبية، حيث لن تكتفي إسرائيل بشريط عازل محدود المساحة، بل سيتسع ليشمل سوريا كلها دون احتلالٍ مباشر، ذلك أن سوريا تحتاج إلى وقت طويل كي تعود إلى بعض ما كانت عليه قبل حكم آل الأسد.
هروب بشار إلى مصير مجهول، حتى اللحظة على الأقل، سيظهر في قادم الأيام أن هذا السقوط الانتحاري لم يكن لرجل ولا حتى لنظام، وإنما لتجربة ساد فيها اللامنطق على منطق الأشياء وفق قوانين الحياة الطبيعية، كل شيء في نصف قرن آل الأسد كان شاذاً من البداية، حين انقلب الجنرال حافظ على زملاءه في الحزب والدولة، ليدخل سوريا في حقبة المذابح، إلى الدقائق القليلة التي جرى فيها تعديل الدستور لتثبيت حكمٍ وراثي مضمونه ملكي واسمه جمهوري. إلى فتح أبواب سوريا لكل من يحمل سلاحاً لحماية القصر الجمهوري الجاثم على جبل قاسيون.
خرج السوريون اليوم من نفق الأسد الضيق والمظلم والخانق، ولكنهم لا يعرفون بالضبط هل خرجوا من النفق لتنفس هواء طلق، ومعانقة ضياء شمس حجبت عن حياتهم زهاء نصف قرن، أم سيدخلون إلى نفق جديد؟
ليس بوسعنا كعشاق لسوريا العربية الأصيلة، التي أسميناها بصدق قلب العروبة النابض، سوى الدعاء لها بمغادرة الأنفاق القديمة دون الذهاب إلى أنفاقٍ جديدة، ندعو لها بالذهاب إلى فضاءٍ تستحقه من الحرية والاستقلال والاستقرار، ومغادرة اللامنطق الذي أطال عمر الاستبداد حتى بدا كما لو أنه أبدي، إلى منطق الشعب المفترض أن يصنع حاضره ومستقبله.
لا نستطيع استنتاج ما سيحدث في الأيام التالية سوى أن نتمنى بأن لا تكون امتداداً للأيام التي أفلت.