سقوط نظام الأسد الأبدي والإبادي إلى الأبد

 

 

 

بات الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 علامة فارقة، أو صفحة جديدة، في تاريخ سوريا والسوريين. ففي هذا اليوم المجيد سقط النظام الأبدي ـ الأسدي، والإبادي، إلى الأبد، وهو الذي ظل أميناً على شعاره: “سوريا الأسد إلى الأبد أو نحرق البلد”، الذي أشهره في مواجهة إرادة التغيير التي أشعل شرارتها شباب وشابات سوريا في تظاهراتهم السلمية، التي اندلعت من درعا إلى دمشق ثم عمّت مدن سوريا وأريافها في آذار/ مارس 2011، للتخلص من نظام الاستبداد والفساد والتفاهة، والتي رد عليها بإقحام الجيش في معركته.

 هو الذي لم يخض معركة واحدة ضد إسرائيل منذ نصف قرن، وظل طوال عقد كامل لا يرد على ضرباتها المتوالية، بل إنه لم يكتف بذلك بل أدخل معه شريكيه الإيراني والروسي لقتل شعبه وتشريده وترهيبه، أو ما يفترض إنهم شعبه، إلى درجة قتل مئات عدة من الألوف، وتشريد أكثر من عشرة ملايين منهم، داخل سوريا وخارجها، في حرب إبادة وحشية شنّها ضدهم.

معلوم أن هذا النظام حكم سوريا بأجهزة المخابرات والجيش، طوال 55 عاماً (1970 ـ 2025)، انتقلت فيها السلطة بطريقة شاذة وتافهة ومهينة من الأسد الأب، بعدما حكم لـ 30 عاماً، إلى الأسد الابن، الذي حكم 25 عاماً، هيمن خلالها هذا النظام على الحياة العامة والخاصة، وبث الرعب في قلوب السوريين، وبدد مواردهم، وسدّ كل ممكنات التطور السياسي والثقافي والاقتصادي عندهم، بحيث بات كل السوريين، بكل انتماءاتهم وأهوائهم السياسية، بمن فيهم الموالون، بمثابة أسرى لهذا النظام وادعاءاته الكاذبة، أو المخادعة.

وللتوضيح، أكثر شيء فعلته السلطة الأسدية في سوريا أنها قوضت الدولة، أو تغولت على الدولة، التي باتت على شكل حكومة صورية، تتلقى كل وزارة فيها أوامرها عبر المخابرات أو مندوبين من القصر، بحيث أن أكثر شيء افتقده السوريون طوال العقود الماضية هو الدولة بما هي دولة مؤسسات وقانون ومواطنين؛ هذا أولاً. 

ثانياً، الشيء الثاني المؤسس لأي دولة، أو كيان دولتي، الذي افتقده السوريون هو نقص المواطنة، أي افتقاد المكانة الحقوقية والقانونية للمواطن، الفرد، الحر، المتساوي مع غيره. فثمة أشخاص أو أفراد هم ملك السلطة، في الخدمة العسكرية أو المدنية، من دون أية حقوق، أشخاص يخضعون لمزاج الحاكم، في السياسة والاقتصاد والثقافة، وفي كل منتجاته في التلفزيون والصحف والجامعات، إذ حتى صور الرئيس كانت تحتل الفضاء السوري العام من المطار إلى أصغر ساحة أو في المدن والقرى في سوريا. 

ثالثاً، نجم عن نقص الدولة ونقص المواطنة، تشوه المجتمع، وبالتالي غياب المجتمع المدني، مع اختراع هياكل فارغة، ذات طابع سلطوي، ونفعي، مثل اتحادات الشبيبة والطلاب والمرأة والعمال والفلاحين والكتاب والصحافيين والفنانين والمندسين والأطباء والفلاحين، وكلها في الحقيقة أجهزة سلطة، أو طوع السلطة، بل وبات المجتمع يشتغل على أساس طوائف، وفقاً لسياسة “فرق تسد”، بحيث تبدو كل طائفة مقابل الأخرى، مع اعتبار نفسه حامياً للأقليات، وهي مقولة مخادعة قوامها تقويض فكرة المواطنة والمجتمع. 

رابعاً، ثمة مقولة السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وهذا أكثر شيء ينطبق على سوريا، إذ عمم النظام خاصيته على الناس، فباتت علاقات الفساد والإفساد والواسطة والمحسوبية تتغلغل في كل مسامات مجتمع السوريين، كأداة سيطرة، وكأداة لتوسيع قاعدة السلطة الاجتماعية. 

تذكروا تظاهرات الموالين واحتفالاتهم للتأكد من ذلك، أيضاً قارنوا بين أقوال كبار الموالين وأتباع السلطة ومواقفهم، من سياسيين ومثقفين وإعلاميين وفنانين، وأقوالهم ومواقفهم بعد سقوط النظام؛ وهذا الانقلاب لا يمكن تفسيره بالخوف، إذ ثمة تفشّي روح الانتهازية والنفعية والتقية.

خامساً، لم يترك هذا النظام شيئاً إلا وابتذله، هذا ينطبق على شعارات كبيرة، ومشروعة، كالوحدة والحرية والاشتراكية، وقصة المقاومة والممانعة، والقضية المركزية والصراع ضد إسرائيل، وكلها استُخدمت لإفراغها من مضمونها وتشويهها، وتبرير مصادرة النظام حقوق شعبه، في الحرية والكرامة والمساواة والعدالة، وأيضاً لتبرير تبديد ثروات سوريا، ووأد أي إمكانية للتطور لدى شعبها.

الفكرة باختصار، أننا كنا إزاء نظام اختصر أو اختزل سوريا، الدولة والشعب والموارد  والتاريخ والمستقبل بذاته، والنظام هنا هو الرئيس، أو الرئيس وأولاده، لا طبقة ولا طائفة ولا حزب، هذا هو النظام السوري الفريد من استثنائيته، وفي تفاهته، ما يذكر بمقولة حنة أرندت عن “تفاهة الشر وعاديته”، هذا أكثر شيء ينطبق على النظام السوري ورئيسه المخلوع. أنظروا كيف أتى بطريقة شاذة وتافهة، بتغيير الدستور “الشكلي” على مقاسه خلال دقائق، وها هو رحل أيضاً بطريقة شاذة وتافهة، من دون أن يلقي كلمة، أو من دون مبالاة، حتى بمؤيديه أو محابيه، أو المخدوعين به.

المشكلة أن هذا النظام سقط بعدما صادر واستنزف مستقبل سوريا وليس ماضيها فحسب، إذ أخذ 55 سنة من أعمار السوريين، وربما مثل أو نصف ذلك من الزمن من مستقبلهم، بمعنى أن السوريين سيحتاجون ربما إلى عقد أو اثنين لتقيؤ كل ما بلّعهم إياه هذا النظام، وللتخلص من كل القيح الذي زرعه في مساماتهم، مع كل الآلام التي قد تنجم عن ذلك، كي تتعافى سوريا، وتصبح بلداً لكل السوريين، كمواطنين أحرار ومتساوين.

إذاً، هذا يوم مجيد، يوم المنى، وفرحة العمر، يوم يستحق فيه العرفان والتمجيد كل المناضلات والمناضلين الذين عانوا الأمرّين في سجون الجحيم الأسدي، وشابات وشباب الثورة السورية الأوائل الشجعان، الذين تحدّوا في التظاهرات السلمية بقلوبهم وقيضاتهم البنادق والدبابات والبراميل المتفجرة، في ساحات النواعير (في حماة)، والساعة (في حمص)، وسعد الله الجابري وبستان القصر (في حلب) والمسجد العمري والبانوراما (في درعا البلد)، والأمويين والعباسيين وباب توما والميدان (في دمشق)، وفي كل المدن السورية في اللاذقية وطرطوس ودير الزور والرقة وبانياس والرستن وتلبيسة، في آذار/ مارس 2011، وطوال سنة كاملة.

سلام لأرواح من ذهبوا: رياض الترك، ورزان زيتونة وميشيل كيلو والياس مرقص، وحسين العودات وأنطون مقدسي وسلامة كيلة ومنصور الأتاسي وسميرة الخليل ويوسف سلامة وعمر قشاش، وطيب تيزيني، وجورج طرابيشي، وياسين الحافظ، وسعدالله ونوس وممدوح عدوان ونصري حجاج وأيمن أبو جبل وعبد العزيز الخير وناجي الجرف وعقاب يحيى وعماد رشدان، ولكل الذين عاشوا وقضوا على حلم بالحرية. 

سلام لأرواح شهداء مخيم اليرموك أحمد كوسا ومهند عمر وجعفر محمد وخالد بكراوي وغسان الشهابي وأنس العمارة ونيراز سعيد وحسان حسان ويزن عريشة ومحمد طيروية وكل الشهداء. والحرية للأعزاء علي الشهابي وخليل معتوق وفائق المير وفياض الشهابي، وصالح كيالي (أخي) ولكل المعتقلين والمخفيين والمختطفين المظلومين…

اليوم، انتهت مملكة الصمت والخوف والرعب الأبدي إلى الأبد، ونالت سوريا حريتها، فلنأمل، ونعمل، كي يتعافى السوريون، بغض النظر عن أهوائهم السياسية ومناطقهم وهوياتهم الواقعية والمتخيلة، من أدران الأسد ومن القيح، الذي زرعه النظام، والذي سيبقى ينزّ من مساماتهم  لزمن، بالخروج من أسر الكراهية والعنف والرعب والخوف من الآخر، بأجسادهم وعقولهم ومشاعرهم. هذه قيامة السوريين كل السوريين، ولنأمل ذلك في سوريا كدولة مواطنين أحرار ومتساوين، دولة مؤسسات وقانون في نظام ديمقراطي.

 

 

 

كلمات مفتاحية::
Loading...