إرث الواقع العربي بين الأنظمة الاستبدادية وتمدد المشاريع الخارجية

الحاجة إلى تيار وطني ديمقراطي جامع

سوريون في طريقم للعودة إلى بلداتهم بعد سقوط النظام

 

 

 

ما تعيشه سوريا اليوم كنموذج عربي هو انعكاس لتعقيدات داخلية مجتمعية وإقليمية ودولية. فمن جهة، ترك النظام المستبد الوراثي للأسد الأب والابن إرثاً ثقيلاً من القمع والفساد والانغلاق السياسي في ظروف عربية معقدة لم يترك الاستعمار فيها مجالاً للاستقرار على مدى قرن من الزمن حتى اليوم، فَسادَ الظلم فيها وكما في غيرها من الدول الوطنية وانعدمت العدالة بمساهمة منا نحن حتى أوصلنا أنفسنا لما نحن عليه من حال اليوم دون سعي لمواجهة ذلك بشكل جاد لغياب رؤية أو إرادة، تعرض أصحابها في حال وجودها إلى الظلم ودفع الثمن فكانوا نموذج تجربة قاسية في بلاد العرب التي يفترض أن تكون أوطاننا.

 ومن جهة أخرى، فقد استغلت قوى ما تسمي نفسها بالإسلام السياسي هذا الفراغ بنتيجة واقع هذه الأنظمة وممارساتها لتقديم نفسها كبديل يقود "ثورة تصحيح" بينما كانت هي الأخرى في الواقع أداة لتحقيق أجندات خارجية قد مارست ما هو أبشع من ذلك عبر تاريخها وتراثها ومفاهيمها التي لا تقبل الآخر.

على الصعيد الأوسع، فإن ما يحدث في سوريا كنموذج ليس منعزل عن سياق طبيعة المجتمعات العربية التي عانت وما زالت تعاني من غياب الديمقراطية والتعددية والتراجع السياسي، هو ما ساهم به تراجع دور الأحزاب القومية النهضوية واليسارية والتقدمية التي تركت ولاعتبارات مختلفة الساحة فارغة أمام صعود الإسلاموية السياسية في مجتمعاتنا، والتي تعمل وفق مشروع عالمي تتبناه جماعة الإخوان المسلمين. هذا المشروع، الذي بدأ بخدمة الاستعمار البريطاني، بات اليوم أداة أميركية لتعزيز الهيمنة في المنطقة وفرض التقسيمات الجيوسياسية التي تخدم أهداف مصالحها.

إرث نظام الأسد الأب والابن، قمع الحوار والتعددية

منذ انقلاب حافظ الأسد على رفاقه في حزب البعث العربي الاشتراكي، حوّل النظام مؤسسات الدولة إلى أدوات لخدمة مصالحه الضيقة، وقضى على أي تعددية سياسية، مما ترك سوريا في حالة من الجمود السياسي كما ترك غيرها من الدول العربية. ورغم الشعارات الواسعة لتلك الانظمة القومية، أدت سياساتها إلى تدهور الدولة وتفككها، مما مهد الطريق أمام القوى الخارجية والجماعات المتطرفة للعبث بمستقبل سوريا والعراق ومصر ولبنان وغيرها.

فأصبح إرث النظام أحد أسباب الانهيار الحالي، حيث فشل في حماية الدولة، بل أسهمت سياساته في أن تكون الدبابات الإسرائيلية اليوم على بعد بضعة كيلومترات من دمشق أو حولها وشن هجمات جوية غير مسبوقة على كل الأراضي السورية دون أن تدفع ثمناً لذلك.

صعود الإسلاموية السياسية، مشروع خارجي بأدوات محلية أو عابرة للدول

غياب المشروع الوطني الديمقراطي في سوريا والمنطقة فتح الباب أمام الإسلاموية السياسية لتظهر كبديل. هذه الحركات، رغم افتراض كونها جزءًا من النسيج الاجتماعي العربي، تعمل بمنطق عالمي تابع لجماعة الإخوان المسلمين دون رؤى وطنية.

معتمدين على الفكر التكفيري والدعم الخارجي، فقد استقدمت هذه الحركات مقاتلين مرتزقة أجانب من القوقاز، جمهوريات روسيا، وتركيا، مما عزز صورتها كمشروع عابر للحدود يفتقر إلى الرؤية الوطنية. فإذا أرادت هذه الحركات أن تكون جزءًا من الحل، فعليها أن تتوقف عن كونها جزء من المشكلة المتصاعدة وأن تبنى خطاب وطني يعترف بالتعددية وقبول الآخر وبالقيم الديمقراطية ولطبيعة الدولة المدنية، ووقف استيراد المقاتلين، والابتعاد عن الإرهاب والتكفير، والعمل من أجل المصلحة الوطنية للمجتمع والدولة لكي تكون فعلاً جزء من النسيج الاجتماعي.

أزمة الأحزاب القومية واليسارية والشيوعية، دروس من الماضي

لعبت الأحزاب القومية النهضوية واليسارية والشيوعية دوراً مهماً في معارك الاستقلال الوطني ولاحقاً في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وساهمت في نهوض العمل الوطني العربي والتنوير الثقافي ومواجهة مشاريع الاستعمار، لكنها تراجعت إلى حد كبير بفعل أخطاء استراتيجية في معالجة الواقع العربي ومن خلال تغييبها لمفهوم المشروع القومي في مواجهة مشاريع أخرى بالمنطقة، وفي تغليب الأممي على القضايا الوطنية، وانشقاقاتها المتكررة، الأمر الذي أضعف مكانتها ودورها الطليعي المفترض في مجتمعاتنا العربية التي فرض عليها ثقافة التخلف والإلحاق.

هذا الفراغ في الساحة السياسية العربية ترك المجال مفتوحاً أمام الإسلاموية السياسية لتقديم نفسها كبديل، رغم افتقارها إلى مشروع وطني حقيقي، واعتمادها على أجندات خارجية كانت ترى فيها قندهار بأهمية أكبر من القدس.

 التدخلات الخارجية وإسرائيل

مع تفكك الدولة السورية وغيرها من الدول، لم تتأخر إسرائيل في استغلال الفراغ ولعب دور اللاعب الأساسي ضمن حجارة شطرنج المنطقة، فباتت هي من يشكل واقع استراتيجيات المنطقة الجيوسياسي لفرض هيمنتها على المنطقة بالشراكة والدعم الأميركي المطلق.

 نحو مشروع وطني ديمقراطي بديل

إن مستقبل سوريا بأهمية مكانتها بكل المعايير والمنطقة العربية يتطلب إنشاء تيار وطني ديمقراطي تقدمي واسع لا تهم التسميات بشأنه، يعمل على منع "أفغنتها" أو "صوملتها"، تيار واسع يجمع القوى المختلفة على أسس وطنية بمنهج ديمقراطي، ليكون بديلاً عن استبداد الأنظمة الديكتاتورية في محتواها أو الإسلاموية السياسية في مخاطرها.

هذا التيار لا يجب أن تقتصر مهامه ورؤيته على العمل من أجل الحريات والتعددية السياسية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية والدولة المدنية، بل لوضع رؤية تقترن ببرنامج وأدوات عمل من أجل هزيمة المشروع الصهيوني الاستيطاني، الذي يسعى لفرض مشروع "إسرائيل الكبرى" على المنطقة، مستغلاً حالة الانقسام والتفكك وصراع اللاعبين بالمنطقة.

 هذا التيار يجب أن يشكل رافعة حقيقية للحوار المجتمعي والتعددية السياسية والفكرية بهدف الوصول إلى إشاعة القيم الانسانية ومكانة وقيمة الانسان العربي كصاحب حق بالحياة في وطن حر والقرار بمستقبله حتى لا تبقى الكتابة فقط هي الوطن الذي نعيش فيه أحرار.

 

 

 

كلمات مفتاحية::
Loading...