ومع تغير المشهد الجيوسياسي العالمي وزيادة التوترات بين القوى العظمى تصبح الكثير من الساحات الاقليمية ميداناً للتنافس بينها، ولطالما كان الشرق الأوسط فراغاً خالي من القوة مما يجعله مغرياً للجيران الأقوياء للتدخل والهيمنة على الاقليم لأهميته الجيواستراتيجية الذي يتمتع بها، فاشتد التنافس القاري والدولي حول هذه المنطقة، التي تعيش دوامة الفوضى الخلاقة التي أنتجتها متغيرات داخلية وأخرى فرضت خارجياً، وهي المنطقة الوحيدة التي أعلن الأمريكيون رغبتهم في ملئ الفراغ بها، كأن لا بشر ولا دول على أرضها، مع يقينهم أن التطبيع سينطلق بديناميكية أقوى بعد حرب غزة.
وفي ظل هذه الأحوال المؤلمة تختلف الاصطفافات والمواقف والأصدقاء والأعداء والحلفاء، ولا يخفى على أحد مشاريعهما في المنطقة، فاصطدمت المشاريع، لصراع أكبر من غزة، المنافسة شديدة بين إسرائيل وتركيا وإيران حول اللاعب الإقليمي المركزي في المنطقة، طبعاً تركيا أطلسية الهوى، تبقى إيران بمواجهة إسرائيل الراغبة بهذه المواجهة ومسرحها الآن سوريا.
أربعة عشر شهراً بين طوفان الأقصى واحتفال السوريين بانهيار نظام الأسد وإخراج إيران من دمشق، طوفان الأقصى ترك بصمة بارزة على العالم بشتى المستويات الجيوسياسية والجيواقتصادية وخاصة منطقة الشرق الأوسط الذي تغير بشكل كبير وشهد تحولات وأحداث عنيفة، تداعيات طوفان الأقصى غيرت وجه المنطقة، رموز وقيادات كبيرة رحلت، وحمل تغييراً حقيقياً في موازين القوى، على الصعيد الإقليمي، تركيا في صعود تسعى لزيادة نفوذها الجيوسياسي، إيران في انحسار وتقهقر، واستثماراتها الاقتصادية والسياسية فشلت في سورية، وإسرائيل في غطرسة، والدول العربية لديها فرصة لأداء ما يجب عليها صد المطامع التركية والإسرائيلية وملئ الفراغ الايراني، على الصعيد العالمي موازيين القوى ليست في صالح روسيا ولن يكون لنفوذها ثقل لفترة طويلة، روسيا هزمت في سوريا وتداعيات خسارتها على البحر الأبيض المتوسط من خلال القواعد ومستقبل هذه القواعد رهن المقايضة مع تركيا، روسيا لن تتعافى من هذه النكسة لفترة طويلة هذا لا يعني أنها انتهت ما زالت تراهن على الحرب في أوكرانيا.
وبقي نتنياهو يحتفل بالانتصار "بكسر سوريا، الحلقة المركزية في محور الشر الإيراني"، والآن سوريا دولة منزوعة السلاح، وحرب نتنياهو فيها عملية غير مسبوقة، ومن نوع جديد حارب بدون أن يكون أمامه عدو، حرب من طرف واحد لا يوجد جيش يحارب، وبعد انتهاك للحدود والمعاهدات الدولية ومعاهدة فصل القوات 1974 التي تم المصادقة عليها في مجلس الأمن، قام بعملية تدمير القدرات الاستراتيجية العسكرية الدفاعية الجوية والبحرية وكل شيء يتبع للجيش الذي قد يحتاج إلى عشرات السنين لبنائه، ودخل الأراضي السورية بعمق عشرين كم على طول الحدود السورية وغالباً لن يخرج، بالوقت الذي يعيش فيه السوريين فرحة سقوط النظام يأتي الاعتداء الإسرائيلي لينغص على الجميع ويرد على رسائل السلام التي تنطلق من الفصائل التي استعادت سوريا وينغص معركتها للتحرر من بقايا نظام الأسد التي مازالت في بدايتها واختيار طريقها الصحيح للتقدم فما الذي تريده إسرائيل منها!!.
مخطط نتنياهو يطمح لفرض واقع جديد في الجولان، والتوغل الإسرائيلي جزء من الأجندة الإسرائيلية التي تقوم على الاحتفاظ بالجولان بغض النظر عن رأي المجتمع الدولي، فهناك موافقة أمريكية على ضم الجولان أتت من رئاسة ترامب الأولى ولا يمكن عكس هذا الواقع، وتحاول إسرائيل أن تؤكده وترسخه، فهناك مطامع إسرائيلية في سوريا، وليست مجرد حفظ الأمن كما يروج لها الإعلام الإسرائيلي بتسلم الحكم من هيئة تحرير الشام المصنفة على لائحة الإرهاب.
إسرائيل حليف تكتيكي مع تركيا في هذه المرحلة وهي مسألة فائقة الأهمية، تركيا الراغبة بدور محوري في مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهو ما يتفق ورؤية هنري كسنجر التي طرحها عام 1995 والتي تقول: "أن تركيا يجب أن تكون دولة محورية بالشرق الأوسط"، طبعاً الشرق الأوسط الجديد الذي سوق له نتنياهو، والذي يقوم على أنقاض دول ودماء عربية، لطمس الهوية القومية، والمستهدف فيه كل العالم العربي.
وقد تكون هناك تعقيدات تلف المشهد السوري إيران وروسيا لاعبان يلفهما الغموض، أمريكا تدعم "قسد" بنفس الوقت التي تعتبرها تركيا خصم، إسرائيل تريد وصل "قسد" بالمناطق الجنوبية للوصول إلى إسرائيل، لإتمام مشروع مارشال للشرق الأوسط الذي اقترحه شمعون بيريز عام 1986 لتأمين الاستقرار في المنطقة حسب التخطيط والمصالح الصهيونية لدمج إسرائيل "بشرق أوسط جديد" والهيمنة عليه اقتصادياً وأمنياً لخدمة المصالح الاستراتيجية الأمريكية والغربية وتحويل أموال الخليج إلى الأسواق الإسرائيلية المالية والمتجسد في الممر الاقتصادي الذي تم إعلانه في قمة العشرين، والذي يربط الهند والشرق الأوسط وصولاً إلى إسرائيل ومن ثم أوروبا بدعم أمريكي أوروبي في خطوة التفافية على الفناء الخلفي الروسي ومحاصرة طرق الصين وامتدادها وقطع طريق طهران بغداد وصولاً إلى السويداء ودرعا لقطع طرق الامدادات لقطاع غزة والضفة الغربية تمهيداً للقضاء على المقاومة الفلسطينية.
اردوغان الرهينة الأمريكية، ينشر الدرع الصاروخي الأمريكي، ومئات القواعد العسكرية الأطلسية، ومراكز الرصد والإنذار، وقواعد التجسس على أهم الموانئ التركية، وحدث بلا حرج، سيف مسلط على دول الطوق الإسرائيلي، ويسمح السيطرة على معظم الطرق الجوية والبرية المباشرة بين الدول العربية، والسيطرة على منابع النفط في الخليج، أليس هو من يقاتل غزة بمحاصرة سوريا، واحتلال آلاف الكيلومترات من الأراضي السورية، وانتهاك سيادة العراق باستهداف المقاتلين الأكراد، والهدف أبعد، للسيطرة على حقول النفط العراقية، وكأن ما يفعله في سوريا والعراق وليبيا، ليس من مصلحة أمريكا وإسرائيل، فهذا التقلب والعربدة لا تجري دون موافقة ومباركة القوى الإمبريالية والأمريكية، اردوغان منح أضواء خضراء كافية، لأن يؤدي ما يخدم استراتيجية القطب الأوحد أمريكا، التي تعتبر نفسها منفردة بمقدرات العالم، أليس هو القرن الأمريكي!!!
سوريا في مشهد مظلم وعلى مفترق طرق، مع غياب حالة عربية للتعامل مع الاحتمالات التي ستواجهها، ما هو قادم خطير جداً، الانفجار الذي يستتبع إعادة تشكيل الخرائط والدول والركام، سيكون له تداعيات على بلدان وشعوب وأنظمة المنطقة، لا أحد يعلم إلى أين نتجه، وكأنهم يدفعون الأمور إلى خيار اللاعودة.