من خلال متابعتي للإعلام الإسرائيلي أعتقد أن هناك نوعاً من التيه والضياع غير المسبوق منذ 75 سنة لدى الاحتلال على كل المستويات، والسبب أن الاحتلال يعيش ولأول مرة تحدياً وجودياً حقيقياً رغم أنه خاض ثلاث حروب مع الجيوش العربية الرسمية (1948 _ 1967 _ 1973) وخاض حروبا متقطعة مع المقاومة الفلسطينية – اللبنانية خلال السبعينات والثمانينيات كانت قمتها حرب عام 1982، والحرب الضروس مع حزب الله عام 2006 ورغم هذا الميراث من الحروب إلا أن حربه التي يشنها على المقاومة في غزة منذ السابع من أكتوبر هي مختلفة عن تلك الحروب بصورة جذرية والسبب يعود لعاملين أساسيين :
الأول: أن الحرب بدأت على الأرض التي يعتبرها أرضه وأقصد هنا مستوطنات غلاف غزة، وهي خطوة كسرت واحدة من أهم ركائز العقيدة الأمنية التي وضعها بن غوريون في خمسينيات القرن الماضي ألا وهي: قوّة الردع، والحرب الوقائيّة وحسم المعركة بسرعة كبيرة، وهي ركائز صممت على هذا النحو وذلك لاستحالة قيام "إسرائيل" بالدفاع عن حدودها بالنظر لافتقارها للعمق الإستراتيجي مما يعني ضرورة نقل أي معركة إلى أرض "العدو" واحتلال أماكن هناك لغرض تحقيق مكاسب سياسية لاحقاً وهذا ما جرى في حرب حزيران عام 1967 .
الثاني: الصمود الفلسطيني في غزة بشقيه سواء صمود المقاومة والذي أطال الحرب إلى مدة تجاوزت الثلاثة شهور وهي مدة غير مسبوقة في الحروب الإسرائيلية مع العرب وتحديداً مع الفلسطينيين، والصمود الشعبي رغم الدمار والجرائم الكبرى التي ارتكبت بحق المدنيين العزل.
والسؤال هنا ماذا أنتج هذا الواقع الميداني للمعركة؟
أنتج جملة من العناصر والنتائج تفاعلت وجاءت على النحو التالي:
• عامل الأسرى أو الرهائن الإسرائيليين وهو عامل صممته ونفذته المقاومة ببراعة، بالإضافة للصمود الميداني وهو العامل الذي فجر التناقضات داخل مجتمع الاحتلال "المأزوم" تاريخيا وبكل الأبعاد وعمل على تغيير أولويات الحرب ولربما الصراع برمته في المستقبل حيث بات موضوع إعادة الأسرى (أحياء كأولوية) حتى لو أدى الأمر لوقف العدوان.
• فجر الصمود الفلسطيني الخلافات الداخلية داخل المستوى السياسي وظهر نتنياهو على حقيقته وربما لأول مرة منذ أن شكّل حكومته الأولى عام 1996 كشخصية انتهازية فاقدة للشعور والحرص الوطنيين بعد أن وظف الحرب على غزة وبدون تحديد أجندة اليوم التالي للحرب من أجل إطالة أمدها وذلك للهروب من المحاكمة بتهم الفساد وللهروب من احتمالية تحميله مسؤولية الإخفاق الكبير في السابع من أكتوبر.
• بسبب أزمة نتنياهو المركبة سواء الشخصية، أو السياسية ببعدها المجتمعي وببعدها العسكري والأمني بعد 7 أكتوبر ومن أجل النجاة من تلك الأزمة بات أسيراً لتحالفه مع اليمين الحريدي الديني والعنصري (بن غافير وسموتيرش) وهو ما سيترك بصمات كبرى على شكل دولة الاحتلال في المستقبل القريب، حيث بات يشكل هذا التحالف غير المسبوق أحد العوامل المساهمة في تحول دولة الاحتلال وبشكل سريع نسبياً إلى دولة دينية أوتوقراطية وهو ما يتناقض بشكل كبير مع الأسس العلمانية التي قامت عليها الدولة.
• وبسبب العامل السابق بدأت دولة الاحتلال بعد 75 عاماً تخسر التأييد شبه المطلق الذي طالما كانت تحظى به من قبل المنظمات الأميركية – الصهيونية، كما ظهر الاختلاف بصورة يصعب إخفاؤه بين حكومة نتنياهو والحزب الديمقراطي وتحديداً في ظل إدارة بايدن الذي كان ومازال يعتبر نفسه صهيوني.
• بسبب كل ما سبق دخلت دولة الاحتلال أخطر منعطف في تاريخها وأقصد هنا تحولها في نظر العالم إلى دولة فصل عنصري وتُحاكم حالياً بتهمة الإبادة الجماعية على إثر المجازر في غزة وهي التي بنت شرعيتها على "كذبة الهولوكست" وابتزت العالم بمظلومية الاضطهاد التاريخي وخاصة في ألمانيا وتسلحت بكذبة "التفرد" بساميتها وشكلت من هذه الكذبة "تهمة معاداة السامية" التي مازالت تبتز بها كل من ينتقدها ويجرم سلوكها كدولة احتلال.
لا أعتقد أني أبالغ في شيء إن قلت أن مفاعيل وتفاعلات السابع من أكتوبر نقلت القضية الفلسطينية إلى مرحلة تاريخية جديدة أبرز معالمها أن العالم بات أكثر تفهماً للقضية وأكثر تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني وحقوقه وأكثر جاهزية لبذل الممكن لمساعدته من أجل إقامة دولته المستقلة (القابلة للحياة) وهو بالمناسبة مصطلح الحسين بن طلال رحمه الله والذي اختفى من التداول سياسياً وإعلامياً