في ظل التحولات العميقة التي تشهدها المنطقة العربية واتضاح تبعات ما جرى بسوريا على وجه التحديد من إشاعة سلسلة أكاذيب وأفلام مبرمجة سابقاً واحتلال إسرائيلي لجزءٍ من أراضيها وضرب كل قدرات الجيش السوري على الأرض، إلا أن حق الشعب السوري الشقيق في اختيار مصيره بعد فترة من انتهاكات للتقاليد الديمقراطية والأخطاء المرتكبة بالشأن الداخلي يبقى أمراً لا شأن لأحد فيه من خارجها. إلا أنه واضح أن هناك مشروعاً دولياً وإقليمياً قديم يستهدف اليوم تفكيك الدول الوطنية وإحلال أنظمة بديلة تعتمد على تيارات الإسلام السياسي المتطرف ترتبط بتمرير مشاريع الولايات المتحدة وإسرائيل بالمنطقة وفق ما أشرت له في مقالي بالأسبوع الماضي. هذه التيارات المتطرفة التي مارست الإرهاب بكافة أشكالها تحت ستار التخفي وراء الإسلام الحنيف واستغلاله السياسي، بمختلف صياغاتها ليست إلا أدوات لتحقيق الهيمنة الخارجية المعادية للدولة الوطنية ومكوناتها وأدوارها. تجارب مصر، الجزائر، تونس، والسودان، إلى جانب سوريا، العراق وغزة، تقدم أمثلة واضحة على محاولات ترسيخ هذا النهج رغم فشله بالمراحل السابقة من الاستخدام في عدد من الدول التي حاولوا إخضاعها لمثل تلك المحاولات من خلال ما سُمي بالربيع العربي أو مصادرة حق ما سعت له الشعوب من محاولات للتغيير الديمقراطي الحقيقي وحرف مساره لخدمة تلك الأهداف.
الإسلام السياسي في سوريا، أداة للتقسيم والتفكيك
منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، تحوّلت البلاد إلى ساحة صراع دولي. التنظيمات المسلحة ذات التوجهات الإسلاموية، مثل "النصرة" و"داعش" و"القاعدة "، لعبت دوراً محورياً في استهداف الدولة الوطنية ومكوناتها من خلال العمل الإرهابي بحق مكوناتها الحضارية ومجتمعها التعددي المتنوع وقبل فترة ظهرت هذه التنظيمات تحمل أسماء جديدة وشعارات "معتدلة" كـ"هيئة تحرير الشام" وهي ليست من أصول شامية بل مرتزقة عابرة للدول بمئات الآلاف، لكنها استمرت في تنفيذ نفس المشروع الجيوسياسي بمسميات إسلاموية جديدة يحاولون صبغها بصفة الاعتدال دون أن يكون لها علاقة بالمكونات الإسلامية والمسيحية المشرقية للحضارة العربية المدنية التي ننتمي نحن لها بالمشرق العربي ونعيش في كنفها.
الدور الأمريكي ومن خلال حلفائه أيضاً الذي يسعى لاستدامة هيمنته الأحادية القطب كما والدور التركي الذي يسعى لإعادة فكر وتوسع السلطنة والإسرائيلي الذي يسعى للتوسع الاستيطاني وفق المشروع الصهيوني التوراتي، كان واضحاً في دعم هذه الجماعات منذ إنشائها رغم اختلاف أهداف رعاية كل طرف منهم لها. ليس من أجل الديمقراطية وحقوق المواطن والعدالة، بل لضمان إضعاف الدولة العراقية والسورية وتحويلهما إلى دويلات طائفية تسهل السيطرة عليها وتأمين دور تلك الأطراف لتحقيق أجزاء من أهدافها. ورغم التحديات التي واجهها النظام السوري السابق وكما العراقي، إلا أنه حافظ على وحدة الأراضي لما قبل ذلك بالمفهوم النسبي الممكن ومنع تقسيم المنطقة وتمرير مشاريع الاستسلام وإن كان بثمن باهظ تتضمن انتهاكات وأخطاء كان من الممكن تجاوزها وأهمها اشكال تغييب الديمقراطية تحت ستار قومية المعركة لضمان حكم الحزب الواحد، كما جرى في أقطار عربية أخرى إلى جانب دور إمارات البترودولار الموالية تماماً لأهداف تأسيسها والتي لا شأن لتقاليد ديمقراطية فيها من قريب أو بعيد، إلا أن ذلك لا يعني السياسات الانتقائية الأمريكية طالما هذه الأنظمة تدور في فلكها وتخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية في مواجهة قوى وأقطاب دولية صاعدة.
غزة، الانقسام وأزمة المشروع الوطني
في عام 2007، نفذت حركة حماس انقلابا ضد السلطة الوطنية الفلسطينية رغم اشتراكها في انتخابات جرت كناتج من أتفاق أوسلو الذي أعلنت رفضها له والذي اختلفت التقييمات بخصوصه، وربما ما وصلنا إليه اليوم هو أحد نتائجه التي فُرضت علينا بعد تنكر الاحتلال له رغم نصوصه المنحازة غير العادلة والعودة عنه بعد بدايات انقلاب اليمين الصهيوني المتطرف والديني بإسرائيل الذي تمثل باغتيال رابين الذي جرنا بالتعاون مع الثعلب الصهيوني بيريس لهذا المربع في ظل المتغيرات الدولية في حينه والتي أفقدتنا للعديد من أوراق القوة والتأثير.
تحت شعارات مختلفة ترسّخت سلطة الإسلام السياسي في غزة خلال محاولات فرض مشروع الإمارة التي كانت ترى في قندهار ربما أكثر أهمية من القدس دون اكتراث لحقنا بالاستقلال الوطني، رغم بعض جوانب الخلافات بين الوطني والإخواني الدولي في صفوفهم والتي ربما ما زالت قائمة حتى ما بعد سلسلة الاغتيالات التي تخلصت بها إسرائيل من ذوي العقلية الوطنية المقاومة بينهم وفي صفوف حزب الله أيضاً لإعادة ترتيب موازين المنطقة بإنهاء فكر المقاومة بأشكاله، بعد ما كانت تعرضت له من ضرر بسمعة تفوق ردعها الذي مَنعت من استمراره من خلال توسيع جرائمها غير المسبوقة بالرد وحتى على حساب سمعتها الدولية لدى بعض المترددين من الدول ومثولها أمام القضاء الدولي الذي لا تكترث له في ظل النظام الدولي القائم. لقد اعتمدت إسرائيل على استمرار ما كان قائماً حتى السابع من أكتوبر الماضي على تعاون خارجي من قطر وتركيا رغم اختلاف توجهاتهم ومبررات دعمهم بخلفية الموافقة الأمريكية التي وجدت في استدامة هذا الانقسام مصلحة استراتيجية لإسرائيل ضمن حدود تفرضها هي وتتحكم بها.
أدى حكم حماس إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في القطاع، في حين استمر الاحتلال في تنفيذ مخططات حصارها دون رادع وتوسيع الاستيطان والضم بالضفة الغربية وإضعاف السلطة الوطنية وصولاً لما نحن عليه اليوم. لقد أدى هذا الوضع الذي برز بدور حماس الذي لم يمثل علاقة لها بتاريخ ومستقبل الحركة الوطنية الفلسطينية منذ أن اعتدت على تراث ومقدرات الحركة الوطنية زمن الاحتلال في غزة. من جانب آخر إلى تراكم أخطاء مَست بجوهر مفهوم مرحلة التحرر الوطني وشروط وقرارات أشكال المقاومة التي تناسب الظروف وهي بالطبع حق لكل شعب يخضع لاحتلال. كما وتجاوز نصوص وثيقة إعلان الاستقلال من تغييب للديمقراطية الانتخابية في وقت كان بالإمكان تنفيذها، وعدم الجدية في تفعيل أشكال استنهاض المنظمة كمثل شرعي وحيد وبيت جامع للكل الوطني، كما والمماطلة في تنفيذ مخرجات حوارات موسكو وبكين وما قبلها بتفاوت المسؤولية عن ذلك، إلى إضعاف المشروع الوطني الفلسطيني المتعلق بحق تقرير المصير أساساً وإقامة الدولة ذات السيادة والمتواصلة جغرافياً وعاصمتها القدس وحل قضية اللاجئين وفق القرار الأممي، وخلق بيئة تُستغل فيها معاناة الفلسطينيين من خلال عدوان الاقتلاع والإبادة والتجويع والتهجير لتحقيق واقع جديد وفق مصالح المشروع الصهيوني في ظل تقديم وعود أمريكية ابتعدت عن الحقوق السياسية المشروعة لشعبنا اقتصرت على الأبعاد الأمنية والاقتصادية وشكلت سراباً أضاف معاناة إلى ما هو قائم جراء سياسات الاحتلال القهرية لتصفية القضية الفلسطينية بجعل غزة مكاناً غير قابل للحياة وجعل الضفة مكاناً مشابهاً في مرحلة لاحقة من خلال مشروع الكانتونات وصفقة ترامب 2.
الإسلام السياسي في مصر، الجزائر، تونس، والسودان وغيرها
تجارب الإسلام السياسي في الجزائر وتونس والسودان ومصر تقدم دروساً إضافية حول فشل هذه التيارات في تقديم نموذج حكم مستقر أو ديمقراطي بل أيضا بما لا يحمل بعداً قومياً أو أي بعد في مناهضة إسرائيل
في الجزائر، حاولت الجماعات الإسلامية فرض رؤيتها بالقوة والإرهاب خلال التسعينيات، مما أدى إلى حرب أهلية دموية أودت بحياة مئات الآلاف، وأثبتت خطورة الدمج بين الدين والسياسة والدولة.
في مصر شاهدنا إصرار الاخوان المسلمين على تولي الحكم بفعل الترهيب والدعم الأمريكي لمرسي الذي قدم أجزاء من سينا كجزء من وطن فلسطيني بديل من خلال تبادل الرسائل مع حكومة الاحتلال لتحييد دور مصر المفترض.
في تونس، صعود حركة النهضة بعد ثورة 2011 أثار انقسامات اجتماعية وسياسية عميقة، وواجهت الحركة اتهامات بالسعي للأسلمة السياسية للمجتمع وتهميش القوى المدنية والتراجع عن المنجزات الثقافية الحضارية، ما دفعها للتراجع أمام الضغط الشعبي واستطاع المجتمع التونسي إفشال محاولاتها.
في السودان، حُكم الإخوان المسلمين لأكثر من ثلاثة عقود بقيادة عمر البشير عَمّق الفقر والانقسامات، وأدى في النهاية إلى سقوط النظام وكيان الدولة تحت وطأة الثورة الشعبية التي لم يسمح لها باستثمار نتائجها، فتم الضرر بها وتقويضها من خلال الثورة المضادة والتمكن من صياغة محاور خلافات جديدة هنالك بدور أمريكي وإسرائيلي لإضعاف واستنزاف السودان وجيشها من خلال التطبيع وتمكين دولة جنوب السودان المبتدعة واستمرار الصراع القائم حتى اليوم.
الدور الخارجي، دعم الإسلام السياسي المتطرف شَكل من تعزيز الفوضى الخلاقة
السياسات الأمريكية والتركية في المنطقة تهدف إلى تفكيك الأنظمة الوطنية واستبدالها بكيانات ضعيفة تعتمد على تيارات الإسلام السياسي التي استطاعوا احتوائها كما جرى من خلال ما سُمي "بالربيع العربي". وإيران من جهتها التي أطاحت بنظام الشاه وديكتاتوريته العسكرية الموالية للولايات المتحدة وإسرائيل، تحولت بعد فترة إلى نظام الملالي الذي حاول التوسع والتمدد في دول مشرقنا العربي لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية خدمة لمشروعها في غياب مشروع عربي.
في سوريا، تم دعم "هيئة تحرير الشام"، وفي غزة جرى تواطؤ مع حكم حماس حتى تم التمكن لاحقاً من تدمير قواها والبحث في الاستغناء عن دورها لاحقاً وهو ما يتم اليوم بتطويعها بعد القضاء على قدراتها، وفي ليبيا يتم اللعب على تناقضات الإسلاميين والقبائل لضمان السيطرة على الموارد، وفي العراق تقام قواعد الارتكاز الإسرائيلية في كردستان العراق وتعزيز الخلافات الإثنية والطائفية لإبقاء حالة عدم استقرار الدولة قائماً بعد أن تم تدمير كيان الدولة الوطنية والجيش العراقي خلال الغزو الأمريكي وتوريط النظام السابق بأخطاء كان يمكن عدم حصولها من خلال الحرب المدمرة مع إيران ولاحقاً الاحتلال العراقي للكويت.
هذا الدعم لتنظيمات الإسلام السياسي المبتدعة لم يكن بدافع الحرص على حقوق الشعوب وتحررها وتقدمها أو تقديم بديل ديمقراطي، بل لضمان إبقاءها في دائرة السيطرة وتنفيذ مشروع طويل الأمد يهدف إلى إضعاف الدول الوطنية ومنع التفكير بمشروع قومي عربي وإعادة تشكيل المنطقة بما يخدم التفوق الإسرائيلي والمصالح الغربية للواقع الجيوسياسي الذي يسعون لتنفيذه لمصلحة هيمنة المشروع الصهيوني.
من استبداد أنظمة الحزب الواحد إلى استبداد الإسلام السياسي المتطرف
رغم أخطاء أنظمة الحزب الواحد، التي حكمت لفترات طويلة في دول عربية من خلال تبدل الانقلابات العسكرية إلا أنها تمكنت بشكل أو بآخر من الحفاظ على وحدة الدولة واستقلال قرارها الوطني بغض النظر عما اتفقنا أو اختلفنا حوله في هذا الشأن. في المقابل، صعود الإسلام السياسي أدى إلى إعادة إنتاج الاستبداد، لكن هذه المرة في محاولة تقديم نفسه كبديل "ديمقراطي" بغطاء ديني يمارس الانتقام وإقصاء الآخر وتكريس أشكال تفتيت الدولة الوطنية من خلال قادة مارسوا الإرهاب بدلوا من مواقعهم وأسمائهم في حروبهم المزعومة.
نحو مشروع وطني ديمقراطي جديد
التحديات التي تواجه الدول العربية اليوم تتطلب العودة إلى فكرة الدولة الوطنية الديمقراطية التي تضمن الحقوق والعدالة الاجتماعية والتنوع والسيادة الوطنية بعيداً عن الهيمنة الخارجية أو الأيديولوجيات العقائدية والدينية.
إن مواجهة مشروع الإسلام السياسي الذي تنفذه حركة الإخوان المسلمين بمسميات مختلفة اليوم والمدعوم خارجياً تبدأ بإعادة بناء العقد الاجتماعي بالمجتمعات العربية، والتركيز على المصالح الوطنية، وتبني سياسات ديمقراطية شاملة تستوعب الجميع من تنوع المجتمعات ومصادرها الحضارية والفكرية. المستقبل يعتمد على قدرة الشعوب على استعادة دورها في صياغة أنظمتها السياسية وحماية حقوقها المدنية وخاصة حق المواطنة، بعيداً عن استبداد أنظمة الحزب الواحد أو الإسلام السياسي أو سراب الوعود الأمريكية التي جرت الويلات للمنطقة ومكنت دولة الاحتلال الكولنيالي من الاستمرار والتوسع ومنعت هزيمة المشروع الصهيوني حتى اليوم على حساب هزيمة الدول الوطنية التي نراها اليوم بكل أسى. إلا أن الهزيمة ليست قدراً أمام إصرار الشعوب على النهوض من أجل الحق والعدل، والتغيير دائماً هو الثابت الوحيد في مسار التاريخ الذي لا يتوقف عند نقطة كما علمتنا تجاربه على تجاوز مخلفات الماضي، واستعادة مشروع نهضوي عربي حقيقي قائم على الحرية، السيادة، والعدالة الاجتماعية بعيداً عن أي استبداد، سواء كان باسم الدين أو باسم الدولة.
إن ذلك يتطلب تعزيز قيم المواطنة والمساواة، وإعادة بناء المؤسسات الوطنية على أسس ديمقراطية قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، بما يشمل تمكين المجتمع المدني وتفعيل دوره كركيزة أساسية في تحقيق الاستقرار والتنمية وبناء أحزاب سياسية ديمقراطية معاصرة.