خلاص السوريين من نظام الأسد حدث ثوري وتاريخي

 

 

 

ما حدث في سوريا بمثابة ثورة بالفعل، وليس مجرد تغيير سياسي، ولا مجرد إسقاط نظام، وإحلال آخر محله، بغضّ النظر عن الكلاسيكيات الأكاديمية السائدة، ومع الاحترام لها، فهذا هو معنى خلاص السوريين وتحررهم من نظام الإبادة الأبدي، الذي كان شعاره الأثير: “سوريا الأسد إلى الأبد”، والذي كان يتصرف بأكثر من كونه قوة احتلال غريبة، إذ احتل وهيمن وقيّد حياة السوريين، وحتى خيالاتهم، وأحلامهم في يقظتهم ومناماتهم طوال 55 سنة، من الأب إلى الولد الوريث (1970ـ 2024).

ما جرى في سوريا هو تحرير وتحرر للسوريين، بما في ذلك تحرير تاريخهم ومستقبلهم من زمن الأبد الأسدي، من سجنه البغيض، وفظاعات أجهزة مخابراته، وابتذال ادعاءاته، وفنونه، وتماثيله، واستعراضاته، ونمط اقتصاده المشوه والهزيل، وحزبه المهترئ، واتحاداته الشعبية الخلبية، فهذه هي قيامة السوريين؛ أما كل ما بعد ذلك فلكل حادث حديث.

لنلاحظ أن أكثر شيء فعله ذلك النظام المدّعي حرصه على التشبّث بشعاره: “سوريا الأسد أو نحرق البلد”، وهذا ما فعله حقاً، إذ نهب ثروات البلد، وشرّد نصف الشعب السوري، وأفقر معظمه، وخرّب مدنه، ونغّص حياة كل السوريين، في حين نأى بنفسه عن شعاراته، عن الـ “وحدة حرية واشتراكية”، وفلسطين والمقاومة والممانعة، التي تبين أنها لمجرد الاستهلاك والتلاعب والمزايدة، وهو الذي ظل طوال عمره، بعد خسارة الجولان مطية لإسرائيل، مع تبجحه بالرد في الزمان والمكان المناسبين.

خلاص السوريين وتحررهم من نظام الأسد الأبدي والإبادي، أتى بمثابة ثورة، كونه خلص اللبنانيين والفلسطينيين أيضاً، إضافة إلى أنه خلص مجتمعات وبلدان المشرق العربي، من تغوّل نظام “الولي الفقيه” في طهران، الذي اشتغل لعقدين على تخريب بني الدولة والمجتمع فيها، بدعوى فلسطين والقدس والمقاومة، لكن ذلك تبين عن تلاعب، إذ عندما حانت لحظة الاختبار، نأى بنفسه عن فلسطين ولبنان وحتى عن حماية نظام الأسد من السقوط.

في الحقيقة فقد كان اللبنانيون بمثابة توأم للسوريين في توقهم إلى الخلاص والتحرر، من هذا النظام الذي خرّب نمط عيشهم، وهيمن على حياتهم السياسية، وكتم أنفاسهم، وتحكم بخياراتهم، وطبقتهم السياسية، واقتصادهم، واعلامهم، طوال قرابة نصف قرن، بخاصة في العقود الثلاثة الأولى، في الفترة من 1076 ـ 2005، وقد أورث بعدها ذلك إلى إيران، من خلال ذراعها الطائفية الميلشياوية “حزب الله” (2005 ـ 2024) الذي اشتغل أيضاً، كشريك لنظام الاستبداد والفساد، في قتل السوريين وتشريدهم.

تبعاً لذلك، فقد كان اللبنانيون الأكثر تحسّسا بعد السوريين، لمعنى التغيير على حياة السوريين، وهو ما عبر عنه بجلاء حازم الأمين لدى توصيفه هذا الحدث، بقوله: “لم يعد من أثر في الشام لحضور نظامه (الأسد) إلا في أماكن تجميع النفايات… تبخر النظام بين ليلة وضحاها، ولم يبق منه إلا نفاياته. صور الرئيس المخلوع ممزّقة، وتماثيل والده محطمة… بإمكان زائر دمشق أن يعاين ذلك الحضور الرهيب للعائلة الحاكمة في كل شيء. في شركة الهاتف الخلوي، وفي أوراق العملة، وفي البارات والمساجد والفنادق. أينما وليت وجهك ستجد أثراً قاتلاً لآل الأسد. لكنهم اليوم في مستوعبات النفايات، وفي أحاديث الناس الساخرة عن “الرئيس النذل”، وفي أغاني الساروت المنبعثة من السيارات اللاعنة لبشار وعائلته. دمشق المدينة الهائلة التي لم يبقِ فيها البعث شيئاً إلا واستباحه، خلعت بليلة واحدة كل مظاهر القباحة التي نشرها “البعث” على مدى أكثر من خمسة عقود!” (درج، 18/12/2024).

الفلسطينيون، أيضاً، لهم نصيبهم في معاناة مزدوجة، إذ إن النظام استخدم قضيتهم بطريقة قصدية ومبتذلة، لتعزيز شرعيته، وتغطية فساده واستبداده، بخاصة مصادرته حقوق السوريين وحرياتهم، ونهبه مواردهم، والتلاعب بهم، إضافة إلى مزايداته على الأنظمة العربية الأخرى؛ من جهة. ومن جهة أخرى فهم عانوا من بطش نظام الأسد، ما تمثّل بدوره في تصفية بعض المخيمات، أو البطش بالفلسطينيين فيها، كتلّ الزعتر (1976) وصبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، عبر ميليشيا حركة “أمل” (1985 ـ 1987) وصولاً إلى مخيم نهر البارد (2007)، في لبنان، وهو ما حصل في مخيمات سوريا، وبالأخص في مخيم اليرموك (2012 ـ 2018). 

في السياق ذاته، كان نظام الأسد اخترع جهازي مخابرات للحركة الوطنية الفلسطينية وللفلسطينيين هما “الضابطة الفدائية” و”فرع فلسطين” (الذي وسع اهتماماته في البطش بالسوريين وغيرهم) مع فصيلين هما “الصاعقة” و”الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة”، فضلاً عن نفوذه في فصائل أخرى. كما ذاقت القيادات الفلسطينية الأمرين جراء مداخلاته في الشأن الفلسطيني، بادعاءات “قومية” المعركة، في حين الأمر يتعلق بالامساك بالورقة الفلسطينية، وهو ما فسر العداء، أو التوتر المستمر بينه وبين الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.

باختصار فإن نظام الأبد والإبادة لم يكن قومياً ولا وطنياً ولا يسارياً ولا علمانياً، ولا يمثل أحداً، لا طائفة ولا طبقة ولا منطقة ولا حزب، ولا أي جماعة، فقط كان يمثل نفسه، كعائلة مافيوية، استطاعت أن تقبض على زمام كل السلطات، وتمسك كل مفاتيح السيطرة الأمنية والإدارية والخدماتية والاقتصادية في البلد، الأمر الذي يفسر ضمور الدولة، وهزال هيكليتها، ويفسر انهيارها بالكامل، بعد سقوط الرئيس الفار، الذي عبر في ذلك عن خسة ووضاعة وهشاشة النظام الذي أخذ 55 سنة من أعمار كل السوريين، موالين أو ساكتين أو معارضين.

ولنلاحظ أن سقوط النظام كشف عن فضيحة مدوية وكارثية، إذ إن أكثر شيء أنتجه طوال 55 عاماً، هو الرعب والفساد والكيماوي والكبتاغون والبراميل المتفجرة والمسالخ والمكابس البشرية وانتهاك أجساد المعتقلات والمعتقلين واستباحة حياة السوريين.

على ذلك فإن أهم رسالة يوجهها السوريون لبعضهم بعضاً، للتحرر من هذا النظام الفظيع، هو التحرر من عقلية الغلبة والكراهية والإقصاء والفساد والتسلط، كي تغدو سوريا الجديدة ملكاً لهم جميعاً، كي يستعيدوا الدولة، وسيادة الشعب، بعيداً عن مصطلحات النظام الساقط، وضمنها مصطلح الأقليات، الذي لعب عليه لتجزئة الشعب، وتكريس تسلطه عليه، في حين حرم كل السوريين حقوق المواطنة، ومكانة المواطن، ففي سوريا الجديدة يفترض أن ثمة مواطنات ومواطنين أحراراً ومتساوين من دون أي تمييز، لأي سبب، سوريين مواطنين وفقط.

 

 

 

 

كلمات مفتاحية::
Loading...