تتداخل الأحداث بشكل عجيب في هذه الأيام المتبقية من سنة 2024, سنة ستظل عالقة في الاذهان بأنها كانت عنوان القهر والظلم والدم المسكوب على أرض غزة التي تحولت إلى جحيم مفتوح مع استمرار عجز وفشل المجتمع الدولي في وضع حد لمحرقة العصر التي يقودها جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ أربعة عشرة شهراً دون أدنى مؤشرات عن قرب نهاية المأساة التي سيذكر التاريخ أنها أم النكبات والنكسات على مدى عقود طويلة من الاحتلال...
في خضم هذا المشهد الدموي ومع اقتراب عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى البيت الابيض وتواتر تصريحاته بشأن قناة بنما وشراء غرينلاند وتحول كندا إلى الولاية الواحدة والخمسون للولايات المتحدة وهي تصريحات تصب جميعها في اتجاه واحد وهو التوجه نحو مزيد الهيمنة وفق شعار "أمريكا أولاً" الذي يعود ترامب بمقتضاه إلى البيت الابيض في خضم ما سبق إذن تأتي اعترافات وزير الحرب الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، بدور بلاده في الإطاحة بنظام بشار الأسد في سوريا، و تهديداته المتصلة للحوثيين حيث قال غالانت "هزمنا حماس، وقضينا على حزب الله، وعطلنا أنظمة الدفاع الإيرانية، وألحقنا أضراراً كبيرة ببنيتهم التحتية الإنتاجية. وأسقطنا حكومة الأسد في سوريا، وأضعفنا محور الشر بشكل كبير."
طبعا ندرك أننا إزاء كيان إرهابي عنصري تعود على عدم المسائلة التي تدفعه في كل مرة لاقتراف مزيد الجرائم في حق الفلسطينيين وفي حق شعوب المنطقة، ليس سراً أن هذا الكيان نادراً أيضاً ما يعترف بما يقترفه من جرائم ولكن يبدو اليوم من خلال تصريحات غالانت و نتنياهو المطلوبان للعدالة الدولية أن هذا الكيان يبدو منتشياً بما يحدث في المنطقة من تطورات خطيرة و معقدة مع استهداف قدرات حزب الله و اغتيال قيادات الصف الأول واستهداف قيادات حماس وإضعاف الوجود الإيراني بعد الانهيار السريع لنظام الأسد الذي استمر أكثر من نصف قرن وظهور الجولاني السريع في المشهد وتحول دمشق إلى قبلة القادة في الغرب لجس نبض زعيم جبهة النصرة الذي خرج من أحضان القاعدة وداعش قبل أن يتخلص من جلباب المقاتل ويتحول مع طاقمه القادم من إدلب إلى سياسي ببدلة عصرية أنيقة وخطاب حذر يغازل الغرب ويتطلع إلى قبوله ورضاه ليرفع عنه العقوبات ويخرجه من القائمة السوداء للإرهابيين و تستقر له السلطة في سوريا...
ليس مهما البحث في نوايا الرجل إزاء كيان الاحتلال الإسرائيلي فقد كان الجولاني ليّنا واضحاً في هذه المسألة وهو لا يريد توجيه الرسالة الخطأ في الوقت الخطأ للغرب وقال صراحة أنه غير معني بمواجهة هذا الكيان تماما كما أنه ليس مهما أن يكون جيش الاحتلال قدرات الجيش العربي السوري ومواقعه ومراكز بحوثه وتوغل أكثر وأكثر داخل الأراضي السورية يوم وصول الجولاني وأعاد احتلال مدينة القنيطرة وبات على بعد ثلاثين كيلومتراً من العاصمة دمشق...
لسنا بصدد استباق الأحداث ولا نحن أيضاً ندعي القدرة على التنبؤ بما هو آت ولكن بعض الإشارات لا تحتاج إلى قدرات خارقة لاستجلاء المشهد و انعكاسات أحداث سنة 2024 على السنة القادمة 2025 على القضية الفلسطينية كما على منطقة الشرق الأوسط ، والأرجح أننا إزاء طي صفحة كان عنوان المعركة فيها مرتبط بقمة بيروت ومعادلة الأرض مقابل السلام لإقامة الدولة الفلسطينية على حدود جوان 1967 والتي طرحتها السعودية آنذاك والدخول اليوم في معادلة ترامب المرتقبة وعنوانها التطبيع مقدمة لأي اعتراف بالدولة الفلسطينية على ما بقي من أرض فلسطين..
ولعل الأيام القادمة تكشف لنا ما خفي من الأحداث ولكن في الانتظار وبعد الاعترافات الإسرائيلية والكشف عن مزيد الاسرار على عملية اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في العاصمة الإيرانية طهران يوم 31 جويلية 2024 والكشف بأن القنبلة التي استهدفته وضعت في وسادته، لا نستبعد اعترافاً قادماً من هذا الكيان بالتورط في إسقاط طائرة الرئيس الإيراني بعد مكائد البيجر في بيروت وما حدث من اختراق لحزب الله..
خلال خطاب له في حفل تكريم نظمته وزارة الأمن والجيش الإسرائيلي وجه كاتس تهديداً للحوثيين قائلا " سنضربهم بشدة، نستهدف بنيتهم التحتية الإستراتيجية وسنقطع رؤوس قيادييهم تماماً كما فعلنا مع هنية ورئيس حركة حماس السابق يحيى السنوار والأمين العام السابق لحزب الله حسن نصر الله في طهران وغزة ولبنان، سنفعل ذلك في الحديدة وصنعاء"...
لأول مرة اذن أوردت وزارة الحرب الإسرائيلية تصريحات كاتس في بيان رسمي أنها تتبنى رسمياً ولأول مرة عملية إغتيال هنية.. طبعاً سبق وأعلنت السلطات الإيرانية في تقرير رسمي أن الحادث كان نتيجة الضباب وسوء الأحوال الجوية مما أسفر عن مقتل الرئيس ومرافقيه.. لا خلاف أن الكيان الإسرائيلي الذي قام على الدم وتعود على الاغتيالات واستهداف كل ما يعتبره خطراً عليه تعود أيضاً على الإفلات من العقاب والمسائلة والملاحقة وهوما يجعله يمضي قدما في سياسة الاغتيالات التي يعتبر الاحتلال أنه أحد شرايين بقاءه واستمراره.. سيواصل كيان الاحتلال سياسة الاغتيالات وسيستمر في التخلص من كل الأهداف التي يمكن أن تزعجه... السؤال إلى متى يمكن أن يستمر ذلك، والأكيد أن الإجابة لا تحتاج ذكاءً خارقاً ستستمر جرائم الاحتلال طالما استمر الخذلان الدولي و العربي وطالما استمر تسليح هذا الكيان بأحدث أنواع السلاح و أشدها فتكاً ليدوس على أبسط قواعد الشرعية الدولية والقوانين الإنسانية التي تتبخر اليوم في ظل توحش النظام العالمي مقابل تنامي كل أسباب الفقر والتخلف والهشاشة والانقسام والانهيار بين الشعوب المستضعفة التي باتت تحتاج إلى معجزة سماوية للخروج من إطار التنفس الاصطناعي إلى استعادة الأنفاس وعودة الوعي المفقود لتعديل البوصلة والانتباه لحجم وثقل المخاطر التي تستهدف حاضرها ومستقبلها وتهدد مصيرها.. لا الاحتلال وعنصريته وتوحشه قدراً محتوماً، ولا الظلم والقهر والاستبداد تحت أي راية كانت شخصية أو حزبية أو عسكرية أو دينية يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية..