لم تنشأ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وقد بلغت من العمر 60 عاما، كاستمرار لتاريخ المجتمع الفلسطيني، أو كامتداد طبيعي وسياسي واجتماعي وكفاحي للحركة الوطنية التي سبقتها قبل النكبة (1948)، ما شكل إحدى أهم نقاط عجزها أو ضعفها.
كانت تلك الحركة قد نشأت أساسا خارج فلسطين الجغرافية، وبين ظهراني مجتمعات اللاجئين في الأردن وغزة (تحت الإدارة المصرية) وسوريا ولبنان، بعد النكبة بحوالي عقدين، لشعب تمت تجزئته، وإخضاعه لأنظمة سياسية وقانونية مختلفة، أي إنها لم تنشأ في أوساط الفلسطينيين بين النهر والبحر، ولم يكن لديها إقليم مستقل، ثم إن قياداتها وإطاراتها السياسية لم تكن تمتّ بصلة، لا اجتماعيا ولا سياسيا، للحركة الوطنية السابقة، التي اندثرت بعد النكبة، وإقامة إسرائيل، وتشريد ثلثي الشعب الفلسطيني.
رغم كل تلك الصعوبات والمحددات، وضعف الإمكانيات، فإن تلك الحركة، وجدت عدة عوامل مساعدة أسهمت في صعودها، أهمها يكمن في رفض الفلسطينيين لواقع النكبة والتشرد والحرمان من الوطن، واستعدادهم العالي للتضحية، وتوقهم لاستعادة أرضهم وحقوقهم، مع وجود محاولات لتشكيل إطارات، وإطلاق مبادرات كفاحية، لكن تلك العوامل الذاتية اللازمة، كانت بحاجة لعوامل موضوعية أيضا، كي يتأمن الشرط الكافي، في تلك الظروف الاستثنائية.
هكذا، فإن الكفاح المسلح الذي شكل، في حينه، رافعة لاستنهاض الشعب الفلسطيني، وشد عصبه، وبلورة هويته، في أماكن وجوده كافة، تمكن من فرض ذاته، بالضبط، بعد هزيمة الأنظمة في حرب يونيو/حزيران (1967)، وليس قبلها. فبسبب تلك الهزيمة، وبالأحرى للتغطية عليها، تم منح الحركة الوطنية الفلسطينية الوليدة، آنذاك، الشرعية، وتمكينها من أخذ "منظمة التحرير الفلسطينية"، التي تشكلت ككيان سياسي للفلسطينيين، بقرار من النظام الرسمي العربي (1964)، وفوق ذلك فقد تم تقديم الدعم المادي والتسليحي واللوجستي لفصائل الكفاح المسلح الفلسطيني، رغم القيود والمحددات التي فرضت عليها، بأشكال مباشرة وغير مباشرة.
الآن، وبعد ستة عقود حصلت تحولات نوعية كبيرة في الحركة الوطنية الفلسطينية، طاولت بناها وأهدافها، فهذه الحركة، التي تموضعت في الداخل بعد "اتفاق أوسلو" (1993)، تختلف عن تلك التي كانت في الخارج، إبان مرحلة الكفاح المسلح، إلى حين إخراجها من لبنان (1982)، ثم إنها أضحت بمثابة سلطة تحت الاحتلال والحصار (مع حركتي "فتح" في الضفة و"حماس" في غزة)، بمعنى أن ثمة تغيرين هائلين حدثا في تلك الفترة.
أما التغير النوعي الثالث، فيمكن تعيينه في الاختلاف والانقسام والتمحور الفلسطيني، من حول الحركتين الرئيستين/السلطتين، أي "فتح" و"حماس"، وبخاصة منذ فوز الثانية في الانتخابات التشريعية (2006) وتحولها إلى سلطة أحادية في غزة منذ (2007). إذ إن هذا التطور أدى إلى تهميش باقي الفصائل أو تذويبها، واحتكار الحركتين المذكورتين القرار في الخيارات السياسية والكفاحية للفلسطينيين، والأهم من ذلك أنه أدى، بعد الانقسام السياسي والجغرافي، إلى انقسام الحركة الوطنية الفلسطينية، بين اتجاهين أيديولوجيين، وطني وإسلامي، علما بأن ذلك لا ينزع عن "فتح" إسلاميتها، ولا عن "حماس" طابعها الوطني.
الملاحظة الأساسية هنا أن الحركة الوطنية الفلسطينية ظلت جامدة، ومتخشبة، رغم كل تلك التحولات، إذ لم تعمد ولا مرة واحدة إلى مراجعة تجربتها، وتطوير بناها، وتكييف أحوالها، فمثلا استطاعت الحركة الوطنية الفلسطينية في السنوات العشر الأولى لانطلاقها، أي في منتصف السبعينات، تحقيق معظم الإنجازات الوطنية التاريخية للشعب الفلسطيني. لكنها بعد ذلك، وفي غضون العقود الخمس الأخيرة لم تضف شيئا يذكر، بل إنها استهلكت حتى المنجزات التي حققتها، إذ تم تهميش "منظمة التحرير الفلسطينية"، وبات الشعب الفلسطيني بمثابة شعوب متعددة، لكل تجمع أهدافه وأولوياته وحاجاته، كما باتت هناك فجوة واسعة بين الفلسطينيين، في مجتمعاتهم في الداخل والخارج، وبين الفصائل التي باتت جامدة ومستهلكة وعاجزة.
بيد أن أساس كل ذلك الجمود والإخفاقات تمثل بانكشاف الكفاح المسلح الفلسطيني عن وهم، في مختلف محطاته، في الأردن، ثم لبنان، وبعدها في تجربة الانتفاضة الثانية المسلحة في الضفة وغزة (2000/2004)، وحروب إسرائيل على غزة، وآخرها في نكبة فلسطينيي غزة، بعد عملية "طوفان الأقصى" (7/10/2023)، التي وجدت فيها إسرائيل فرصتها السانحة للبطش بالفلسطينيين، والهيمنة عليهم من النهر إلى البحر. وفي الواقع فإن ما حصل لم يقتصر على غزة، إذ شمل تجريف كل ما عرف بمحور "المقاومة والممانعة"، الذي تكشّف عن وهم مجرد للتورية، وفي المحصلة فإن إيران زعيمة هذا المحور نأت بنفسها عن ادعاء "وحدة الساحات"، وعن "حرب الإبادة" الإسرائيلية ضد غزة، ثم عن مثيلتها في لبنان، التي قوضت "حزب الله"، مع نأيها بنفسها أيضا عن انهيار "نظام الأسد"، وضرب إسرائيل لقدراته العسكرية، علما بأنه لم يترجم ولا مرة في تاريخه فكرة المقاومة والممانعة.
هكذا، فإن جمود الحركة الوطنية الفلسطينية، التي ظهرت منذ أواسط السبعينات، بعد أن حققت ما يمكنها بإمكانياتها، تجلى أيضا في عدم إدراكها لواقعها وقدراتها، وللمعطيات العربية والدولية المحيطة بها والمحددة لها، وعدم قيامها بما يفترض أن تقوم به إزاء كل ذلك على صعيد بناها وأهدافها وخياراتها السياسية والكفاحية، فبقيت عند نقطة السبعينات في كل شيء. وهذا يشمل بقاء هذه الحركة عند ياسر عرفات (1965- 2004)، ومع خليفته محمود عباس (2005 حتى الآن)، رغم كل التغيرات العاصفة التي حصلت لحركة "فتح"، و"منظمة التحرير" والسلطة، والشعب الفلسطيني، وكل التغيرات العربية والدولية. وأيضا رغم كل السياسات التي انتهجتها إسرائيل إزاء الفلسطينيين من النهر إلى البحر.
من حق الفلسطينيين العاديين، الذين لم يحملوا السلاح، ولم ينتموا لفصائل، مساءلة قياداتهم عن الخيارات السياسية والكفاحية التي اعتمدتها، في إدارة المجتمع والمنظمة والسلطة والمفاوضة والمقاومة، إذ لا يوجد توكيل على بياض لأحد، والسياسة فعل بشر، غير معصومين من الخطأ، ثم إن المساءلة والنقد والمحاسبة من أبجديات العمل السياسي المسؤول، ومن أوليات مهمات الحركات السياسية الحية، والتي تتوخى مصالح شعبها، وبخاصة أن الفلسطينيين العاديين، هم الذين دفعوا ثمن خيارات قياداتهم، في الأردن ولبنان والأراضي المحتلة، وهذا ينطبق على قيادتي "فتح" و"حماس"، كل بقدر حجمه، ومكانته في القيادة.
لا يعني ذلك أن الفصائل جاءت من كوكب آخر، أو أنها غريبة عن شعبها، وإنما هذا يفيد، فقط، في التمييز بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، وبخاصة أننا نتحدث عن كيانات سياسية، تتمتع بأوضاع سلطوية، مع سطوة مالية وإعلامية وأمنية وعلاقات إقليمية، وأوضاع شكلت فجوة بينها وبين شعبها، لأسباب ذاتية وموضوعية.