مقالات مختارة

كي لا نخون فلسطين

 

بقلم: نديم قطيش

يخون العالم الفلسطينيين إن سمح لمأساة غزة أن لا تصير فرصة لصناعة مستقبل مختلف لعموم الشرق الأوسط. المأساة الهائلة الراهنة، تنطوي على إمكانات بشأن شكل وعلاقات وديناميّات ما بعد الحرب، إن أُحسنت إدارتها، ستمثّل لحظة محورية في تاريخ المنطقة، لإقصاء ما يسمّى محور المقاومة، عن قيادة دفّة التخريب والجنون الأيديولوجي.

لا يجدر لهذا المحور أن يقع على معادلة ما بعد غزة تسمح له بأن يمارس ألاعيب النصر الزائفة، لا سيما بعدما حافظ على أعلى درجات ضبط النفس وهو يتفرّج على المذبحة التي شارك في إدخال الفلسطينيين إليها.

فاجأ حذر الحزب مثلاً، المراهنين عليه، على الرغم من الدعاية الجبّارة التي لطالما قدّمته كفصيل يدير ترسانة عسكرية موثوقة، وقدرات خارقة على مواجهة إسرائيل. خطابات زعيمه وأمينه العامّ بدت كلّها موجّهة لجمهوره المباشر والأوسع لإقناعهم بأنّ الحزب لا يزال يساوي بعضاً من الكلام الذي يقوله، مستشعراً العزلة المتزايدة التي يواجهها. وربّما ما زاد من انكشافه، ضعف بقيّة فصائل المحور التي كانت تصارع هي الأخرى لحفظ ماء الوجه.

أمّا إيران، التي تعدّ "محور المحور"، ففضّلت المضيّ قدماً باستراتيجيتها التاريخية، وهي تجنّب المواجهة المباشرة مع إسرائيل وأميركا، والقتال عبر وكلائها في سوريا والعراق واليمن ولبنان. لم يدفعها التغيير الكبير في نوعية ومستوى الحرب غير المسبوقة على غزة لأن تغيّر سطراً واحداً في مقاربتها، الأمر الذي يعكس وعياً حادّاً عند طهران لحدود قوّتها ولتبعات ومخاطر الصراع المباشر مع خصومها.


إيران الواعية... والمأزومة

سلّطت حرب غزة الضوء أكثر على المعضلة الاستراتيجية التي تواجهها إيران، على نحو غير مسبوق في تاريخ ادّعاءاتها ودعايتها الثورية، وهي المحاولة اليائسة للحفاظ على مكانتها ومصداقيتها في مواجهة أكثر الحروب وحشيّة التي يتعرّض لها الفلسطينيون.

لم يتوقّف الارتباك الإيراني عند حدود عدم الردّ الحقيقي على الحرب على غزة، بل إنّ إيران لم تردّ على قتل إسرائيل المتكرّر لعدد من أبرز قادة حرسها الثوري في سوريا، في ظلّ عدم اكتراث إسرائيل بأيّ من تهديدات طهران التي ازدهرت في الأسابيع الأولى للحرب. حتى إنّ رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو، المتحفّظ في العادة، قال للصحافيين قبل أيام إنّ بلاده توجّه ضربات مباشرة لإيران، من دون أن يقدّم تفاصيل إضافية، مكتفياً بتصريح يبدّد المزيد من هيبة إيران.

وربّما الضربات التي وجّهها الحرس الثوري لأهداف في سوريا والعراق وباكستان، هي ابنة هذا الارتباك الإيراني وحاجة الملالي الماسّة إلى فعل أيّ شيء يعيد ترميم صورة قوّة النظام المهدورة. بيد أنّ ردّة الفعل العراقية، على الرغم من أنّ جلّها يندرج في سياق توزيع الأدوار بين إيران وحلفائها العراقيين عبر السماح لهم بالغضب المدروس فقط، مضافةً إلى ردّة الفعل الباكستانية بقصف مضادّ لأهداف داخل إيران، عزّزت الانطباع بعزلة إيران وضعفها أكثر ممّا خدمت الأهداف الدعائية المصمّمة لها.

الوطنيّة العراقيّة... والردّ الباكستانيّ

لم يهضم العراقيون من حلفاء إيران سلوكها تجاه بلدهم لأنّهم يلمسون حساسية قواعدهم الشعبية العالية تجاه ما يمسّ الوطنية العراقية. ولم يرتدع الباكستانيون عن الردّ على الرغم من أزماتهم السياسية العميقة ووجود حكومة مستقيلة في رأس هرم السلطة.

تعتقد إيران أنّ كلّ ما تقدّم يمكن معالجته عبر التوصّل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، وفق صيغة تسمح لها ولبقيّة مكوّنات المحور بادّعاء النصر وإفشال الأهداف الإسرائيلية، إمّا بذريعة سقوط نتانياهو أو بقاء قادة حماس في غزة أو إفشال محاولات إعادة تكوين السلطة الفلسطينية. كما ستكون نتيجة الحرب نصراً مبيناً لإيران لو نجحت في عرقلة إعادة إطلاق مسارات السلام الشامل، التي تحدّث عنها بأعلى درجات الوضوح والشجاعة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، متحرّراً من الخضوع لابتزاز الإيرانيين وحلفائهم بذريعة الحرب في غزة.

من هنا تمثّل المبادرات العربية النشطة التي انطلقت في أعقاب زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن للشرق الأوسط، والساعية إلى تقرير مصير ما بعد غزة، فرصة استراتيجية لتغليب منطق السياسة والسلام على المنطق الثوري الإيراني.

استراتيجية السلام العربيّة

فحوى الاستراتيجية العربية هي الربط بين إعادة الإعمار وبين تحقيق أمرين:

1-  إعادة تكوين السلطة الفلسطينية على قاعدتَي الالتزام بالحكم الرشيد بدلاً من منظومة الزبائنية والفساد، والسلام بدلاً من منظومة الميليشيات المسلّحة التي تجرّ الفلسطينيين من حرب إلى حرب.

2-  إعادة تكوين السلطة الإسرائيلية والاتفاق مع شريك إسرائيلي جديد على وضع جدول زمني محدّد بأهداف واضحة وآليّات مضمونة للوصول إلى إعلان دولة فلسطينية مكتملة النصاب.

يتطلّب ذلك ما يشبه الانتداب الأممي العربي الفلسطيني المشترك على عموم الملفّ الفلسطيني، مقروناً بتغييرات عميقة لطبيعة الدولة الفلسطينية كدولة منزوعة السلاح، وبرنامج إعادة إعمار على مستوى البنى التحتية الخدمية والسياسية والثقافية والاجتماعية.

لم تُبنَ روما في يوم واحد، كما يُقال. ولا داعي للأمل الزائف بأنّ تحقيق هذا المشروع سيولد تلقائياً من رحم وقف إطلاق النار. فالمعركة الفلسطينية الأصعب، هي معركتهم المقبلة، لا الحرب الشرسة التي عانوا ويعانون منها.

حرب غزة، مأساة إنسانية لا يمكن إنكارها، لكنّها فرصة جيوسياسية ثمينة، للبناء على النزيف الحاصل في هيبة ومصداقية محور المقاومة. فعلى الرغم من قتامة المشهد، تبدو سبل الابتكار الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي مفتوحة لإعادة تعريف القضية الفلسطينية وموقعها ضمن التحالفات الإقليمية، بما يضمن الكرامة الحقيقية لأهلها، وفق معايير الازدهار والتقدّم لا الخطابات الرنّانة وأوهام الكفاح المسلّح والتحرير الشامل.

 

عن موقع أساس

كلمات مفتاحية::
Loading...