كارثة اليرموك... إلى متى؟!

سيدة فلسطينية من مخيم اليرموك بجوار أنقاض المنازل

 

 

 

"رغم أن أي فلسطيني يعرف حق المعرفة بأن ما جرى لهم طيلة العقود الماضية هو عاقبة مباشرة للتدمير الذي ألحقته إسرائيل بوطنهم عام 1948، فإن السؤال السياسي والإدراكي يظل يدور حول إمكانية رسم خط واضح مباشر يصل بين عذاباتهم منذ ذلك الوقت وعذاباتهم في الوقت الحاضر، ولا أعتقد أن رسم هذا الخط متاح"، نهب وتخريب وإبادة جماعية وتهجير وترحيل كعقوبة جماعية، خيام متناثرة تعيد بذاكرتهم فصلاً كان قد مر به أجدادهم منذ نكبة 1948، كيف...؟! وقد كُتب على الفلسطينيين وحدهم مواجهة إسرائيل بلحظة تاريخية في زمن السقوط، سقوط العالم المتحضر وغير المتحضر على السواء.

حافظ اللاجئون الفلسطينيون في شتاتهم على كينونتهم وهويتهم الوطنية الفلسطينية، ومثلت مخيمات اللجوء والتجمعات الأخرى عنواناً رئيساً لهم، ورافداً أساسياً للثورة وفصائل الحركة الوطنية الفلسطينية منذ بدء النضال الوطني الفلسطيني المعاصر، وإقامة منظمة التحرير الفلسطينية عام 1965، ونتيجة للأحداث الكبيرة التي تعصف بالمنطقة العربية منذ ثورات "الربيع العربي"، حتى عملية طوفان الأقصى بداية الجحيم، وما آلت إليه من متغيرات داخلية وخارجية، أنتجت عذابات وآلام  استقاها الفلسطيني في الداخل وفي مناطق شتاته.                                    

ينظر إلى مخيم اليرموك بوصفه أكبر المخيمات في سورية وبلدان الاغتراب القسري الأخرى، إذ يشكل نحو 40% من مجموع اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات سورية، ويعتبر رمز اللجوء وعاصمة الشتات الفلسطيني، تحول نضالياً إلى مركز للحياة السياسية الفلسطينية، وضم مقرات ومكاتب مركزية على صعيد سورية للفصائل الفلسطينية، فضلاً عن تضحيته بآلاف من الشهداء لفلسطين وللحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. وكما هو حال مخيمات اللجوء الأخرى، التي شكلت مركزاً كيانياً مؤقتاً للاجئين الفلسطينيين، إلا أنه امتاز عن غيره بكثافته السكانية وموقعه الجغرافي الهام (أحد أجزاء العاصمة دمشق) وبوابتها الجنوبية، وتداخله مع جواره السوري من بلدات ومدن صغيرة، ويشار هنا إلى تركز نشاط اللاجئين الفلسطينيين الأساسي والرئيسي بالقضية الوطنية الفلسطينية وتطوراتها وعدم التدخل بالقضايا الداخلية السورية، في الوقت الذي انتهجت فيه الحكومات السورية المتعاقبة منذ النكبة، وحتى تاريخه، نهج الحفاظ على الكينونة الفلسطينية وحركة الشعب الفلسطيني الوطنية، وعدم اندماجها في المجتمع السوري مستندة في ذلك إلى قرارات الجامعة العربية ذات الصلة بمسألة اللاجئين الفلسطينيين، والتمسك بالقرار الدولي (194) الخاص بحق العودة.

منذ بدء الثورة السورية في 15/3/2011، وبدء انتشارها إلى العديد من المناطق السورية، توافقت فصائل العمل الوطني الفلسطيني "الفصائل المنضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، والفصائل العاملة في إطار التحالف الوطني الفلسطيني"، على انتهاج سياسة عدم التدخل في الأزمة السورية وفي الشؤون الداخلية السورية، وتحييد المخيمات الفلسطينية من أعمال العنف وتبعاته، ومثل هذا التوافق قاسماً مشتركاً لهذه الفصائل على اختلاف رؤيتها وتوجهاتها، وأصدرت هذه الفصائل مواقف وبيانات سياسية ذات صلة بالأزمة أولها في مطلع نيسان عام2011، وأكدت تباعاً حيادها، باستثناء حركة حماس التي غادرت سورية وأغلقت مكاتبها وسحبت قواتها منها، والتزم اللاجئون الفلسطينيون ومخيماتهم خصوصاً بهذا التوجه الفلسطيني، الذي صادقت عليه واعتمدته منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها وهيئاتها التشريعية والتنفيذية.

وقد عانت المخيمات الفلسطينية بحكم قربها من المدن السورية في دمشق وحلب وحمص  ودرعا، لا سيما في ضوء المعطيات الميدانية، وتموضعها على خطوط التماس بين النظام السوري والمعارضة، من امتداد أعمال العنف والاقتتال العسكري الذي شهدته سورية، وخاصة مخيم اليرموك، الذي شغل مدخلاً إلى أحيائها الجنوبية وحيزاً هاماً في تفاعلات الأزمة السورية وتبعاتها على الأرض، فضلاً عن تداخله مع جواره من بلدات وقرى سورية صنفت مناطق ساخنة تسيطر عليها المعارضة المسلحة حينها، وقد حل ما سمي فلسطينياً بكارثة اليرموك في 17 /12/ 2012، إثر سيطرة المجموعات المعارضة المسلحة على المخيم، كخطوة تحضيرية لمهاجمة دمشق من جنوبها، وكان رد النظام السوري عنيفاً بطائرات الميغ كمن يصطاد عصفوراً بدبابة، الأمر الذي أدى إلى هجرة الغالبية الساحقة من سكانه هرباً من العنف المسلح والتدمير والاغتيالات، ولم يسعف مخيم اليرموك حياده أو عدم تدخله في الأزمة السورية وفي الشؤون الداخلية السورية، وبات تحت سيطرة المعارضة المسلحة، تحيط فيه المواقع العسكرية للسلطة السورية المدافعة عن العاصمة دمشق.

ومثل نزوح سكان مخيم اليرموك الاضطراري نكبة ثانية للفلسطينيين فيه، في ظل أوضاع نزوح صعبة في مناطقهم الاضطرارية الجديدة، وفي سياق الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي تعانيها سورية ككل، وشكل هذا النزوح تشريداً لسكان عاصمة الشتات الفلسطيني ورمز تجمعاته، وتمزيق روابط قاطنيه العائلية والاجتماعية الأخرى، فضلاً عن تعقيدات الحياة اليومية المعيشية والحياتية القائمة وتبعاتها، ولم تنقذ مخيم اليرموك بعد كل المحاولات الفلسطينية على كثرتها، والتي نصت على خروج المسلحين وتحييد المخيم مرة أخرى والعمل على عودة سكانه، كما لم تنفذه أيضاً المظاهرات العديدة للآلاف من أبنائه للمطالبة بالعودة إلى المخيم الوطن المؤقت والاضطراري.

وتضاف كارثة اليرموك على خطورتها وتداعياتها، إلى الأوضاع المأساوية التي حلت في غالبية المخيمات الأخرى، وعموم اللاجئين الفلسطينيين في أماكن سكنهم، وهم من ضمن أكثر المتضررين من النزاع في سورية، وبحسب سجلات الأونروا فإن نحو (270 ألف) من اللاجئين الفلسطينيين أصبحوا الآن نازحين داخل سورية، وهناك حوالي (80 ألف) شخص فروا خارجها، إلى دول عربية أو إلى تركيا وأماكن أبعد في بلدان أوروبا وغيرها، مما يعكس حجم المعاناة الجسيمة التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون جراء الأزمة السورية وتداعياتها، ولكن الأكثر أهمية وخطورة يتلخص في الهجرة، وبخاصة في صفوف الشباب إلى بلدان الشتات الأبعد خارج المنطقة العربية وتداعياتها في سياق حل قضية اللاجئين وعودتهم إلى وطنهم الأصلي فلسطين من بلدان الشتات العربي والإقامة المؤقتة في مخيمات اللجوء.

ونظراً لحجم الكارثة والمأساة الوطنية والإنسانية التي حلت باللاجئين الفلسطينيين في سورية  وتبعاتها على المخيمات الفلسطينية عموماً، وعلى مخيم اليرموك خصوصاً، وما تمثله من خطوة خطيرة وطنياً، نحو تصفية الوجود المخيماتي واللاجئ عموماً، وانعكاساتها عملياً على تطبيق القرار الدولي (194) الخاص بحق العودة وتقرير المصير للشعب الفلسطيني، فإن جهوداً كبيرة بذلت وما تزال من قبل منظمة التحرير الفلسطينية من خلال زيارات وفودها الرسمية المتتابعة إلى دمشق ولقاءاتها مع المسؤولين السوريين، ومحاولات التوصل إلى تفاهمات لحل مأساة المخيم وعودة الأهالي إليه، ولكنها دون جدوى وتم تدميره بشكل ممنهج وكامل، فضلاً عن النهب والسرقة التي تعرض له من قوات النظام السابق، يبدو أنه "قراراً سياسياً" لحكومة النظام السابق.

"نعم كانوا في عداد الضحية وتعرضت هويتهم للتهديد وتعرضوا للتهجير والمعاناة، وأن هناك اتفاق مضمر بين الحكومات العربية والإسرائيلية والأمريكية على التخلص منهم كقوة سياسية، ولكن أبعاد تجربتهم الفلسطينية زودتهم بالكثير من الانتباه والوعي الذاتي كجماعة تقف على حدة من الآخرين، بحيث تعذر أن يكونوا مجموعة سكانية لها منافيها الصريحة والواضحة ورؤيتها المنهجية التامة، وفي الآن ذاته هم أكبر حجماً وأكثر إثارة للمتاعب من أن يظلوا مجموعة من اللاجئين لا تثير سوى العطف"، كارثة اليرموك، الى متى؟! لكننا نراهن على دور حكومة سوريا الجديدة، شاركناكم الألم فشاركونا النصر، والتخفيف من آثار هذه الكارثة، للحفاظ على النسيج الفلسطيني ووجود اللاجئين الفلسطينيين والحفاظ على الوجود المتماسك خطوة كبيرة نحو بقاء هذه المأساة قائمة، حتى إيجاد حلولاً عادلة لها وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، في العودة إلى الوطن الأم فلسطين.

 

Loading...