السلطات المتجددة، أدوات الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط

في كل مرة تُطرح فيها شعارات التغيير والديمقراطية في الشرق الأوسط، نجد الولايات المتحدة والغرب عموما في مقدمة المشهد، يدعون إلى "سلطة متجددة" تكون أكثر استجابةً لما تصفه بـ “ضرورات المرحلة". ولكن بعيدا عن تلك "الشعارات البراقة"، يتضح أن الهدف الأساسي هو صياغة أنظمة سياسية تخدم المشاريع الأمريكية الإسرائيلية، وتُسهل تمرير المخططات التي تهدف إلى السيطرة على المنطقة، من خلال ما يجري الآن وما جرى سابقا وما سيمتد بالسياق ذاته بالمستقبل القريب الى دول اخرى محيطة تُمارس عليها الضغوطات والتهديدات بالوقت الحاضر بسياسات العصا والجزرة لفرض السلطات المتجددة من اجل تمرير مشروع الشرق الاوسط الجديد.

انتقائية السياسة الخارجية الأمريكية

تُظهر ازدواجية المعايير التي تنتهجها الولايات المتحدة في دعمها لأنظمة استبدادية قمعية أحيانا أو دعوتها لتغيير أنظمة ديمقراطية أحيانا أخرى، حيث المصلحة الاستراتيجية لها هي ما يحكم السياسة الأمريكية الانتقائية، وليس حرصا على الديمقراطية أو العدالة وحقوق الإنسان. من هذا المنطلق، يمكننا أن نرى مفهوم "السلطة المتجددة أو الجديدة" في سياق ما جرى تنفيذه في سوريا ولبنان وغيرهم من الدول، وما تم تدميره بدول اخرى خلال المرحلة الاولى من مشروع الشرق الاوسط الجديد وأساليب الفوضى المنظمة من خلال ما سُمي بالربيع العربي الذي تمت أحداثه باستخدام حركة الاخوان المسلمين تهيئة للمرحلة الثانية التي تجري فصولها الآن.

فمنذ عقود، تُثبت السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط أنها تُبنى على المصلحة المطلقة، لا على المبادئ المعلنة. فالولايات المتحدة، لم تكن يوماً تهدف لتحقيق الاستقرار أو الديمقراطية الحقيقية لشعوب المنطقة والعالم، بل الى ضمان استمرار الهيمنة على مقدرات منطقتنا بالمشرق العربي لأهميتها الجيوسياسية الأمنية والاقتصادية من حيث مصادر الطاقة والمياه ومعابر الطرق التجارية ومحاولة الحد من نفوذ اعدائها فيها، بالتعاون مع ادواتها التي تختلف مع اختلاف المرحلة.

الحالة الفلسطينية ومفهوم السلطة المتجددة

اليوم في فلسطين، ورغم أولوية الضرورة أمام مسؤولية المجتمع العربي والدولي في وقف عدوان الإبادة والتطهير العرقي وحماية الشعب الفلسطيني وانهاء الاحتلال الاستيطاني كاملا وأولاً. تُمارس الضغوط من تحالف الغرب لإعادة تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية تحت عنوان "السلطة المتجددة". تهدف هذه الضغوط إلى تجاوز وإنهاء التراث الكفاحي لمنظمة التحرير الفلسطينية بما فيها حركة فتح كحركة تحرر وطني، ودور ومهام فكر ومنهج المقاومة بأشكالها السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والقانونية والشعبية والتي تشكل حق لكل شعب تحت الاحتلال، لتسهيل تمرير مشاريع سياسية مثل استكمال صفقة القرن واستمرار اتفاقيات التطبيع في بما يخدم مشروع الشرق الاوسط الجديد بمرحلته الثانية وتفوق إسرائيل الكبرى، وهو مشروع أمريكي متكامل يجري تحت ستار شعارات القضاء على ما يسمونه "بدور المنظمات العسكرية غير الحكومية" وإنهاء النفوذ الإيراني بالمنطقة .

إن الدفع نحو "السلطة المتجددة" الفلسطينية ليس سوى محاولة لاستبدال السلطة الوطنية القائمة بمرجعية منظمة التحرير رغم حاجتها الضرورية لإجراءات واضحة للتطوير والإصلاح لكن بتوجه وقرار وطني بعيدا عن أية مؤثرات خارجية. إلا أن المحاولات لفرض تركيبة جديدة للسلطة الوطنية "كمتجددة " هو من أجل أن تتجاوب بطرق تُملى عليها مع الرؤية الأمريكية وسياساتها، حتى وإن كان ذلك على حساب الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف.

 ما يحدث في غزة والضفة بما فيها القدس اليوم، يهدف إلى إعادة ترتيب الأوضاع بطريقة تهدد مصير الحقوق الوطنية السياسية لشعبنا الفلسطيني. إسرائيل تسعى إلى تدمير مبدأ الوحدة السياسية والجغرافية لدولة فلسطين المحتلة بما يشمل وحدة أراضي غزة والضفة الغربية بما فيها القدس والخاضعة قانونيا جميعها لولاية منظمة التحرير الفلسطينية.

"حماس" والسلطات المتجددة، نحو حزب سياسي.

وبالإضافة إلى الضغوط الأمريكية والإسرائيلية، تتداخل الضغوطات من خلال المفاوضات الجارية بين دولة الاحتلال وحماس بمشاركة الولايات المتحدة، ومصر، وقطر، وتركيا في عملية تفاوضية مكوكية تتراجع فيها حكومة الاحتلال في كل مرة بهدف استكمال العدوان الإبادي والوصول إلى ترتيبات ما بعد ذلك. هذه المفاوضات المستمرة والتي تم تسريب بنود ما تم التوصل إليه من اتفاق يفترض الإعلان عنه خلال أيام رغم ضرورتها المطلقة لوقف جرائم الإبادة الجماعية والحفاظ على ما تبقى وحماية الأرواح والإفراج عن أسرانا، إلا أنها تشكل تهديدا لوحدة الأرض والشعب والقضية، خاصة بإصرار حماس على عدم تسليم هذا الملف إلى منظمة التحرير في وقت لم نتحمل به كافة الاطراف المسؤولية عن عدم تطبيق ما أتفق عليه في بكين بين الفصائل والقوى.

من جهة أخرى تُمارس الأشكال المختلفة من الضغوطات والمحفزات على الأرض وفي أروقة المفاوضات في آن واحد على حركة حماس للتحول إلى "حزب إسلامي سياسي متجدد" رغم ما يمكن أن يرافق ذلك من خلافات مؤقتة بالحركة. إلا أن ذلك سيفتح الباب أمام التعامل مع حماس كحزب سياسي متجدد في شأن مستقبل وضع غزة ككيان منفصل ضمن المخططات التي تفكر بها الدول المشاركة بالمفاوضات الجارية من جهة ببقاء حماس فيها بدور السلطة المتجددة.

ومن ثم تنفيذ المخطط الذي يهدف باعتقادي إلى الفصل الجغرافي والسياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وإلى الانتقال لتنفيذ رؤية الحسم المبكر بالضفة الغربية من خلال تنفيذ المعازل الجغرافية الممزقة دون المناطق الاستيطانية التي يتم التحضير لضمها اعتمادا على موقف إدارة ترامب الجديدة الذي سيتضح خلال أسبوعين أو أقل من ذلك من جهة أخرى، بعد أن تم تهويد القدس وضمها بقرار إسرائيلي واعتماد ذلك أمريكيا واستمرار تسويق ومحاولات تنفيذ خرائط إسرائيل الكبرى.

حكومة اسرائيلية متجددة

يرافق ذلك إمكانية ممارسة الضغوطات الجزئية على حكومة الاحتلال أو صناعة "سلطة متجددة" فيها بتشكيل حكومة من أقطاب الليبرالية الصهيونية دون أحزاب الصهيونية الدينية تتجاوب مع مشروع الشرق الأوسط الجديد وتحافظ بالطبع على أسس العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة بل وتطويرها بما يحقق المصالح المشتركة وفق الخارطة الجيوسياسية الجديدة التي يتم تنفيذها، للوصول إلى محاولة فرض "حلول" لقضايا المنطقة بعد تطويع الأنظمة فيها وتجديد السلطات. ليتم لاحقاً محاولة فرض حل تصفوي لقضيتنا الوطنية لن يصل إلى شكل وجوهر دولة مستقلة ذات سيادة ومتواصلة على حدود ما قبل 4 حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ودون تحقيق الحقوق السياسية الوطنية غير القابلة للتصرف.

لبنان نموذجا للتحكم الأمريكي

اليوم، يبرز لبنان كمثال حي على هذا المفهوم. فمع استمرار الأزمة السياسية والاقتصادية بعد ما قامت به دولة الاحتلال من عدوان ضد المقاومة اللبنانية والشعب اللبناني بشكل عام. عملت الولايات المتحدة بالتنسيق مع حلفائها على ممارسة الضغوطات لفرض شروطها في اختيار رئيس جديد للبلاد هو قائد الجيش العماد عون، حيث سيكون متوافقا مع رؤيتها في المنطقة. زيارات المبعوث الأمريكي آموس هوكستين المكوكية أتت في هذا السياق، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى تشكيل قيادة لبنانية تكون قادرة على تنفيذ السياسات التي تراها مناسبة، بما في ذلك ضمان الهدوء على الجبهة الجنوبية وضمان الاستفادة من مخرجات الغاز لشركاتها والمياه لصالح إسرائيل وتحجيم الدور الإيراني في لبنان وتغير شكل حزب اللّه ليكون سياسيا بشكل كامل.

بالتزامن، يبدو أن بداية الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية في الجنوب شكل جزءا من هذا الترتيب، في محاولة لتقديم صورة أكثر قبولا للمشاريع الأمريكية والإسرائيلية داخل لبنان، وتهيئة البيئة السياسية لتحقيق هذا الهدف إلى جانب كافة الضغوطات التي اعتمدت سياسة العصا والجزرة، وارضاء نتنياهو مقابل وقف إطلاق النار بالموافقة على ضم مناطق من الضفة الغربية.

سوريا الجديدة بين الاستبداد والغزوات

في سوريا، فإن الطريقة التي تم بها استغلال مطالب الشعب للتغيير الديمقراطي كانت كارثية بما أتت به على المكانة التاريخية والحضارية لسوريا. التدخلات الخارجية بقيادة الولايات المتحدة وبمشاركة تركيا وموافقة إسرائيل أدت إلى حالة من التدمير والفوضى المنتظرة من خلال غزوات الجماعات الإسلاموية التكفيرية بمشاركة المرتزقة الاجانب، دون تقديم أي بديل ديمقراطي حقيقي للنظام السابق.

في سوريا، تم التخطيط وتنفيذ ذلك لتمرير مشروع تدخل خارجي تتداخل به مصالح أمريكية تركية إسرائيلية وقطرية، أدى إلى تدمير البلاد من خلال الغزوة الإسلاموية، بدلًا من تحقيق مطالب الشعب المشروعة من خلال تغيير ديمقراطي حقيقي بمشاركة قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية التي يتم تغييبها اليوم كما الاقليات أيضا غير السنية في منهج طائفي انتقامي تغيب العدالة والمساواة عنه.

هذه التجربة تعكس تماما مفهوم السلطة المتجددة من خلال "سوريا الجديدة"، حيث يُعاد تشكيل النظام بطريقة تحقق المصالح الأمريكية بل والإسرائيلية على حساب الشعب السوري. النتيجة ستكون دولة ممزقة، مجتمعات متفككة، وشعب يبحث عن أدنى مقومات الحياة في وقت ستقوم فيه الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل كل من جهتها على انتهاك سيادة الأراضي السورية ووحدتها، الإمر الذي يتم الان بوصول قوات الاحتلال إلى نقاط قريبة من دمشق، والاستحواذ على مقدراتها من النفط والمياه والغاز، وتحييد الدور السوري المفترض في إطار مجموعة الدول العربية بشأن فلسطين.

وفي العراق، كانت "السلطة المتجددة" التي أعقبت اسقاط نظام البعث من خلال الاحتلال الأمريكي نموذجا آخر لإعادة صياغة المشهد السياسي بما يخدم أجندة أمريكية بحتة. فقد تبع ذلك إشاعة الخلافات الطائفية والأثنية واستمرار التواجد العسكري على أراضيها والذي يشكل احتلال مباشر يخدم رؤيتها نتيجة اقترابها من إيران وروسيا والتحكم في إقليم كردستان بالتعاون مع إسرائيل، متجاهلة تماما احتياجات الشعب العراقي الحقيقية من استقلالها ووحدته وتقدمه الديمقراطي.

 السلطات المتجددة كأداة للهيمنة.

يظهر مفهوم "السلطة المتجددة" كأداة تستخدمها الولايات المتحدة لإعادة صياغة الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط بما يخدم مصالحها.

فمن فلسطين إلى لبنان وسوريا والعراق وغيرهم من الدول، يمكن ملاحظة النمط ذاته، دعوات غربية للتغيير، ضغوط سياسية واقتصادية، وفوضى تحصد الشعوب نتائجها كما يجري بالسودان وما جرى باليمن.

إن الحديث عن "السلطة المتجددة" ليس سوى إعادة إنتاج لسياسات الهيمنة القديمة بحلة جديدة. ما تحتاجه الشعوب العربية ليس تغييرا يُملى عليها من الخارج، بل مسارات حقيقية للتغيير الديمقراطي تنبع من إرادة الشعب ذاته، وبقرار وطني مستقل لا شأن لأحد به سوى شعب كل دولة، وتحافظ على سيادة ووحدة اراضيه وحقوقه وتمارس فيه حقوق الشعوب الأساسية بتقرير المصير والانتخابات الحرة النزيهة باعتبار الشعوب مصدر السلطات.

في مواجهة هذه السياسات، لا بد من صياغة رؤية عربية شعبية موحدة لمواجهة هذا التدخل من جهة، وإلى رؤى وطنية مستقلة يتم التوافق عليها بين مكونات شعوبنا العربية، بمن فيهم شعبنا الفلسطيني، ترتكز على الاستفادة من الدروس واستقلالية القرار الوطني ووحدة مكونات الشعب ووضوح مسار الكفاح نحو التحرر والاستقلال الوطني الديمقراطي برؤية وبرنامج وأدوات واضحة تستند الى أوسع مشاركة وطنية بالكفاح والقرار، وذلك في مواجهة استمرار محاولات الهيمنة والتدخل وإعادة تشكيل المنطقة وفق الأجندة الأمريكية الإسرائيلية والمشروع الصهيوني .

 

 

 

Loading...