نكاد نحن الأردنيون أن نحتكر استخدام مصطلح التسحيج والذي يعني فيما يعنيه التصفيق بداعٍ أو بدون داعي أما لسلطة ما أو لصاحب النفوذ أي كان أو لمن يمكنه تقديم الخدمة أو تمرير المصلحة للسحيج والذي هو "المواطن المنافق"، أما التشبيح فهو مصطلح يكاد يحتكره الأشقاء في سوريا فهو أخطر بكثير من السحيج، فالشبيح يمارس التسحيج بعنف، والتملق بالقوة ويفرض على الآخرين تقديم الولاء رغماً عنهم.
والتسحيج والتشبيح هما ظاهرتان سلبيتان للتعبير عن الوطنية والتمسك بها في إطار "الجدل " المجتمعي أو التباين الفكري وقد تسببتا في إخراج الوطنية والوطنيين الصادقين من المعادلة سواء لدينا في الأردن أو لدي الأشقاء في سوريا والأمر ذاته في عموم الدول العربية، ولهذه الظاهرة جذور تاريخية – سيسيولوجية ارتبطت بثالوث السلطة والولاء والمعارضة وطبيعة كل عنصر من العناصر الثلاثة المشار إليها.
ولذلك نرى أن ظاهرة التسحيج طغت على الفهم الوطني الواعي والعميق وبات أعضاء حزب "التسحيج" هم الذي يضعون "المعايير الوطنية" ويحتكرونها والتي تكون في شكلها العام الولاء المصلحي أو الولاء للمصالح الشخصية أكثر منها الولاء للمصلحة العليا للوطن والمواطن، وفرخت هذه الظاهرة السياسية – الاجتماعية أعداداً كبيرة من الفاعلين في مدرسة الانتهازية السياسية والتي تسببت بضرر بالغ وعلى المدى البعيد في فهم الوطنية والمواطنة وتشويه وعي الشباب وإظهار الوطن على أنه مجرد بستان لقطف المكاسب وإن لم يكن كذلك فهو حالة معادية ولا يستحق الولاء والانتماء والعطاء.
خلال الأسابيع الماضية أي منذ سقوط نظام آل الأسد في الثامن من الشهر الماضي اكتشفت أن هذه العائلة كانت تدير بلدا عظيما مثل سورية بعقلية العصابة فمن أظهر الولاء دفع عنه البلاء أما من لم يظهر هذا الولاء فقد حكم على نفسه وعلى عائلته وربما عشيرته بالموت وهو على قيد الحياة (بالمناسبة العشائرية في سوريا تستحوذ على أكثر من سبعين بالمئة من مكونات المجتمع أي أن سوريا مجتمع بدوي أو ريفي – بدوي) وهذه البداوة هي حزام المدن الكبري كدمشق وحمص وحماة.
والولاء في سوريا لآل الأسد هو صناعة السلطة ويتم بصورة أساسية عبر (دفع البلاء) والبلاء في سوريا القديمة له عشرات بل مئات الأشكال أقلها حدة هو الموت الرحيم بالسجن كرقم منسي لسنوات طويلة يتخللها أشكال وألوان من أنماط العذاب الوحشي اللاإنساني، أما مفهوم الولاء في حالة سوريا "العائلة الأسدية" فهو أغرب أشكال الولاء عبر التاريخ الإنساني أي يجب أن يتم من خلال اضطهاد وامتهان كرامة وإنسانية الإنسان السوري طالما أن الذي يقوم بالاضطهاد هو من الطائفة الحاكمة أو أنه موجود في السلطة، فالسلطة والطائفة هما عنوان البطش في سوريا القديمة.
منذ الثامن ديسمبر الماضي تابعت وعبر السوشال ميديا مئات الفيديوهات لسحيجة ولشبيحة من فنانين ومن أشباه مثقفين ومن رياضيين وغيرهم كانوا في حالة من الاسترخاء والتمتع برحابة ومنافع الولاء للسلطة وهم يعلنون مواقفهم ضد غيرهم من أبناء وطنهم وفي أغلبها كانت مواقف "تشبيحية" فيها عنف لفظي واستقواء بالسلطة واستهزاء بالرأي الآخر وتهديده باعتباره يمثل حالة خيانة وطنية.
وشعرت في الوقت ذاته ومن خلال تلك المتابعة كم أن سوريا العظيمة حبلى بالأبطال على كل المستويات، وأيقنت بصورة خاصة أن قطاع الفن والفنانين في سوريا والذي شكل النموذج في كشف الزيف بين الولاء الحقيقي والولاء المصلحي سيكون هو الضمير الحقيقي في قادم الأيام في مراقبة ونقد السلطة الجديدة في سوريا، ففي الحقيقة لم أكن أعلم أن نسبة كبيرة من الفنانين والمنتجين والملحنين عانوا وسجنوا وهربوا من سوريا لأنهم قالوا (لا) للنظام.
هكذا يبنى ضمير المجتمع، فالمُضطهد عندما يتسلم السلطة سيكون أمام واحد من خيارين إما أن ينحاز بكل أشكال الانحياز لإنصاف المُضطهد ولمنعه في ذات الوقت من "التشبيح" على من اضطهده أو يدمن السلطة وبخاصة السلطة المنفلتة ويمارس كل أشكال التشبيح والعبث والاضطهاد لمن يقول له (لا).
التغيير الدراماتيكي في سوريا كان ومازال بمثابة "زوبعة" خضت وهزت كل الأعمدة الهشة في المنظومة السياسية والمجتمعية في الإقليم وهذا التغيير سيؤثر بقوة على الأنظمة الشمولية أو نصف الديمقراطية التي لا تحتكم لدستور ولذلك أقول نحن بانتظار مشهد صعب إقليمياً.
الأردن تجاوز بحكم تاريخه (104) عاما كنظام سياسي مستقر بنيويا ببعده الدستوري والديمغرافي وشرعيته الدولية وهزات الإقليم منذ زمن بعيد وهو بكل ثقة خارج تلك المعادلة الصعبة.