أيام قليلة تفصلنا عن عودة الرئيس «دونالد ترامب» إلى البيت الأبيض فى ولاية ثانية، وبرغم المخاوف المثارة والمحيطة بإمكانية انتهاج الإدارة الجديدة بعض السياسات التى قد لاتتماشى مع المصالح العربية، فإنه يجب أن نقر حقيقة واضحة مفادها أن «ترامب» نجح فى انتخابات الرئاسة نجاحا ساحقا، وهو يتولى زعامة أكبر دولة فى العالم تمتلك من القدرات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والعلاقات الإستراتيجية المتشعبة مع معظم دول العالم مايؤهلها إلى أن تقوم بدور رئيسى ليس فقط فى الاشتباك مع جميع القضايا الدولية والإقليمية بل أيضا المساهمة بفاعلية فى حلها. وفى هذا السياق، أجد أنه من الضرورى أن أوجه مجموعة من الرسائل إلى الإدارة الجديدة تتعلق كلها بالأوضاع فى المنطقة، والمأمول أن نشهده من هذه الإدارة مستقبلا، وقد حددت هنا الرسائل العشر التالية:
الرسالة الأولى: إن المصالح الأمريكية فى المنطقة لن تتحقق بالشكل الذى تأمله واشنطن دون أن تشهد المنطقة حالة عامة من الاستقرار، وحتى إذا كان الوضع الحالى المتوتر يحقق بعض المكاسب للولايات المتحدة، فإن استقرارا حقيقيا للأوضاع ستكون نتائجه أفضل كثيرا من التوتر الراهن الذى يمكن أن يؤدى فى أى وقت إلى توسيع الصراع.
الرسالة الثانية: إن الضغوط والجهود المكثفة التى بذلها الرئيس «ترامب» بالتنسيق مع إدارة الرئيس «بايدن» فى أيامها الأخيرة ساهمت بالفعل فى انضاج صفقة وقف إطلاق النار فى غزة بعد حوالى 14 شهرا من الهدنة الأولى، وكذا دعم اتفاق وقف الحرب فى لبنان، إلا أن مثل هذه النجاحات هى مجرد تسكين مؤقت لأزمات يمكن أن تنفجر مرة أخرى مالم يتم التوصل إلى حلول سياسية شاملة وعادلة لها.
الرسالة الثالثة: إنه لاتوجد أى مشكلة فى انتهاج الإدارة الأمريكية سياسة «الصفقات» من أجل حل أى مشكلة فى المنطقة، ولكن فى نفس الوقت لابد أن تكون هذه الصفقات متكافئة – ولو حتى نسبيا - وتحقق مصالح جميع أطرافها وليس لطرف محدد بعينه.
الرسالة الرابعة: إن العلاقات الإستراتيجية الأمريكية مع الدول العربية يجب أن تحكمها مبادئ الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وعدم التدخل فى شئون أى دولة أو ممارسة الضغوط عليها من أجل تحقيق أهداف لطرف على حساب طرف آخر.
الرسالة الخامسة: إن إدارة الرئيس «ترامب» اتخذت خلال ولايتها الأولى قرارات مجحفة تماما بحق الشعب الفلسطينى ومن بينها «صفقة القرن» التى تم طرحها فى يناير 2018، والسؤال الذى أوجهه فى هذا المجال هل يمكن أن تقوم الإدارة الجديدة باتخاذ بعض القرارات التى تحقق قدرا من التوازن فى مواقفها، وهنا يجب أن تكون الرسالة العربية التى تصل إلى الإدارة الأمريكية واضحة تماما، وهى أننا لا نمانع فى دعم واشنطن إسرائيل وتأمينها ولكن يجب مراعاة أمن وسيادة الدول العربية بما فيها الدولة الفلسطينية المرتقبة.
الرسالة السادسة: إن الولايات المتحدة التزمت منذ عقود بسياسة الشريك الكامل فى عملية السلام فى المنطقة مما أدى إلى تغيير حقيقى فى العلاقات العربية الإسرائيلية، خاصة توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، وإنهاء حالة الحرب التى استمرت نحو ثلاثين عاما وبما حقق مصالح الأطراف الثلاثة، وبالتالى فهل يمكن أن نرى نفس الدور الأمريكى خلال المرحلة المقبلة، خاصة بالنسبة للموضوع الفلسطينى وليس التركيز فقط على استكمال الاتفاقات الإبراهيمية التى لن تحقق وحدها السلام والاستقرار.
الرسالة السابعة: إن عام 2025 يمكن أن يكون بداية للإنجازات الحقيقية للإدارة الجديدة، وذلك من خلال منح القضية الفلسطينية الاهتمام الذى تستحقه والبدء فى التحرك المبكر والجاد لدفع الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى إلى مائدة التفاوض.
الرسالة الثامنة: إن مسألة التهديدات التى يمكن أن توجهها الإدارة الجديدة إلى بعض دول المنطقة لن تجدى نفعا، حيث إنها منطقة تعانى من مظاهر عدم الاستقرار ولن يضيرها استمرار أو زيادة هذه المظاهر، ومن ثم فإن المنطقة فى حاجة أكثر إلى سياسة التهدئة وليس إلى سياسة التهديد حتى يمكن تهيئة المناخ لحل المشكلات المثارة.
الرسالة التاسعة: إن طاقم العمل الذى سوف يعمل مع الرئيس «ترامب» يتحمل مسئولية كبيرة فى بلورة السياسات الملائمة للتعامل الموضوعى مع دول المنطقة وكيفية حل مشكلاتها، ومن ثم فإن مسئولية هذا الطاقم المحترف - مهما كانت توجهاته الشخصية - أن يقدم النصائح والبدائل التى من شأنها الدفع فى طريق الإستقرار وليس نحو مزيد من التوتر.
الرسالة العاشرة: إن الرئيس «ترامب» أصبح مطالبا بأن «يرد بعض الجميل» للجاليات العربية التى ساهمت فى دعم فوزه المتميز فى انتخابات الرئاسة، حيث إن هذه الجاليات أيدته بقوة نظرا لاعتراضها على موقف الرئيس «بايدن» المتحيز لإسرائيل بالنسبة للحرب على غزة.
فى ضوء ماسبق يمكن القول إنه حتى إذا كانت المعطيات تشير إلى أن إدارة الرئيس «ترامب» سوف تكون أكثر تحيزا لصالح إسرائيل أو قد تتعامل مع المنطقة العربية بصورة أكثر حدة من ذى قبل، إلا أنه فى رأيى أن المسئولية تقع أولا على الجانب العربى الذى يجب أن يمتلك السبق فى مخاطبة الإدارة الجديدة بطريقة علمية وعملية ممنهجة تطرح جميع المتطلبات والمخاوف بوضوح، وتؤكد مبادئ الاستقرار التى تحقق المصالح المشتركة لجميع الأطراف دون استثناء. وفى النهاية لايمكن النجاح فى هذا التحرك دون تكثيف التواصل العربى مع الإدارة الجديدة بطريقة دورية وليست موسمية، بمعنى انتهاج سياسة المبادأة والمبادرة والاشتباك الموضوعى مع القضايا ذات الاهتمام المشترك، أخذا فى الاعتبار أننا إذا لم نفرض أو نسوق رؤيتنا قدر استطاعتنا فسوف نكون عرضة لسياسات خارجية قد يتم تنفيذها بعيدا عن مصالحنا.