كتب واصدارات

ســــيرة القيـد والقـلم | نبهان خريشة

صورة لمجموعه من المعتقلين الفلسطينيين في سجن نابلس المركزي – 1974

ننشر على حلقات في مسار كتاب سيرة القيد والقلم للكاتب نبهان خريشة الصادر عن دار الاستقلال وفيما يلي الحلقة الأولى.

تقديم: عيسى قراقع

أرى الكاتب الأسير المحرر الصحفي نبهان خريشة في "سيرة القيد والقلم" يمر عبر كل المعابر، وأراه تعثر طفلاً حاملاً منشوراً ملغوماً ضد المحتلين في صباح المدارس والمظاهرات، وكلما كبر أكثر كلما تجاوز السياج والحواجز العسكرية والحدود ونجى من الرصاص...

نبهان خريشة يمتلك عيناً ثالثة، بعد أن أطفا المحققون الإسرائيليون إحدى عينيه خلال استجوابه وتعذيبه، فأصبح يرى مالا يراه الجلادون، يرى سماءً صافية، ويرى شهداءً ينهضون ويحملون بلاداً بعد أن صاروا أشجاراً وأناشيداً عالية، وتصير الكلمات في سيرته كائنات حية، والكائنات تصير بيوتا ولحماً وعظماً وذكريات وقبضات وانتفاضات تدق جدران الاحتلال وأبواب زنازينه.

نبهان خريشة لا يكتب سيرته الشخصية بقدر ما يكتب سيرة شعب المليون أسير وآلاف الشهداء، وبلغته الصحفية المجبولة بالتراب والدم والعذابات الطويلة يوثق حالتنا السابقة واللاحقة، يتحسس قلوبنا وعقولنا ويدلنا على الطريق في عبوره العاشر الذي لم يكتمل.

إن الضحية المتمردة المستيقظة في سيرة الكتاب تكشف إلى أي مدى لعبت الثقافة الفلسطينية دوراً هاماً في تشكيل الهوية الثقافية الفلسطينية، قد نقلت الفلسطيني من السكون والعدم إلى الفدائي الذي يبحث عن كيان طليق يحقق فيها الفلسطيني حريته وإنسانيته، لهذا رفض أن يكون مجرد رق أو شبح في السجن، انتفض الأسير والقلم والحجر واشتعل الحلم ونهض الحالمون.

ما هذا الفلسطيني الذي قضى حياته خلف الأبواب الموصدة يرسف بالأغلال، المهدد بالقتل والإبعاد ولا زال قادراً على النظر عميقا في عيني القاتل والجلاد بعين العاصفة؟ وما هذا الأسير الذي يحمل جثته ويرحل في الموت الشهيّ حياً لا يتوقف إلا أمام أبواب القدس السبعة مكتملا كالصلاة؟.

"سيرة القيد والقلم" هي ما تبوح به ذاكرة نبهان خريشة.. شهداء سقطوا بين يديه، أسرى صرخوا وتعذبوا وانتفضوا وجاعوا ورجموا السجانين بحجارتهم وإرادتهم وانتصروا على الليل وسياسة الإذلال لقد حموا الوطن والفكرة وشهادة الميلاد من الانسحاق والموت السياسي، ماتوا ونهضوا وكتبوا وتحرروا وظل الجلادين محشورين مخنوقين في عنصريتهم وخوفهم وأساطيرهم يحترقون ولا ينامون إلا في معسكر داخل دبابة.

شكراً لذاكرة الصديق نبهان خريشة، وبقدر ما أوجعني قلمه قدر ما جعلني اختبر سلامة بصري وبصيرتي وأتحسس جرحي البليغ محاولاً أن أمشي معه في عبوره الأخير لنكمل السيرة، لكن القلوب قد بلغت الحناجر عندما صار اللا مأهول شركا وتأخر الكلام عن موعده حياة كاملة.

نبهان خريشة في "سيرة القيد والقلم" ينحني باحترام لسكان أحلامه القادمين، للأجيال الأولى والأجيال اللاحقة وإذا ما تأخر الحلم قليلاً فإنه يكتفي بحمل البشارة.

**

العبور الأول - البدايات

(1)

 

 

جلست "الحاجة ام ابراهيم" على حصيرة، في فناء البيت بعد ان انطفأ لهيب شمس يوم حزيراني حار، فيما كان ثمر الرمان، الذي انبعثت لتوه زهوره الحمراء، يطل عليها من فوق جدار غير مرتفع بني على عجل، وسقطت حجارة منه وتداعت أخرى... ركض ابن ابنتها نحوها صارخا " ستي.. ستي مكتوب من خالي ابراهيم السبع"

- اقرألي اياه يا ستي..

فتح الصبي المغلف، وقرأ الرسالة التي تضمنت التحيات والاشواق، وتقبيل الايادي والسؤال عن الاحوال والتطمينات بأنه بخير.. سأل الصبي جدته " هو خالي ابراهيم وينه يا ستي؟"   

- خالك يا بنيي في المجر.

-  يعني بعيد كثير؟

- آه بعيد كثير.. يا ويلي، صرلي سبع سنين ما شفته ولا سمعت صوته ولا شميت ريحته، ولولا هالمكاتيب اللي ببعثها، كان طقيت ومتت من زمان!

- طيب ليش ما بيجي يزورك؟!

قالت والدموع تفيض على وجنتيها، " تفتحش جروحي!!  أجو فرسان من الجيش، قبل 7 سنين عنا على حارة الخريشة، في البلد تا يدوروا على خالك، كانوا جنود خيالة كثار، وطلبوا من سيدك "ابو رفيق" يسلموه، قال يا ستي حاكمينه بالإعدام، وقعدوا عنا اسبوع، واحنا بنطعم الجنود وبنعلف خيلهم.. انهد حيلنا يا ستي، ومظلش عنا لا خبز قمح ولا جراديش (خبز طحين الشعير) نوكلها ومطلش "السبع".. عرفنا بعدين انه هرب لسوريا، ومن هناك ساح في بلاد الله الواسعة، ومن وقتها ما شفته!!"  

عرفت لاحقا ـن خالي "السبع" عبر الحدود الاردنية إلى سوريا، بجواز سفر مزور ومنها إلى الصين، وفي تشرين ثاني نوفمبر1957، دعاه رئيس مجلس الدولة الصيني "تشون آن لآي" للمشاركة في افتتاح إذاعة الصين الدولية، الموجهة للناطقين باللغة العربية، وعمل مذيعا فيها لـ 18 شهراً، وتوجه بعدها إلى موسكو، وعمل فيها عدة أشهر في إذاعة "صوت روسيا" بالعربية، قبل أن يلقي عصا ترحاله في العاصمة الهنغارية بودابست.  

ومع بدء عقد الخمسينيات، كانت نكبة 1948 لا تزال ماثله في الذاكرة الجمعية للفلسطينيين، وشهد ذلك العقد أيضا أحداثا رسمت خريطة البلاد السياسية لعقود آتية، فالضفة الغربية ضُمت إلى الاردن، وأغتيل الملك عبد الله الاول في المسجد الاقصى، ليخلفه على العرش إبنه الملك طلال، الذي أطاح به البرلمان بعد نحو عامين من حكمه، ليخلفه ابنه الملك حسين.

وفي تموز 1956، جرت انتخابات برلمانيه، فازت فيها قوى سياسية معارضه، ما أجبر الملك حسين على تكليف زعيم الحزب الوطني الاشتراكي سليمان النابلسي، بتشكيل الحكومة في سابقة لم يشهدها الأردن من قبل، هذا في الوقت الذي انبثق فيه تياران في المنطقة: الناصرية وحزب البعث..  وفي العام 1957، وبعد عدة أشهر على تشكيل حكومة النابلسي، شهدت علاقاتها مع القصر الملكي توتراً شديداً، انتهت بإقالة رئيسها النابلسي وحلها.

وكانت احزاب المعارضة، تتخذ من مدينة نابلس مركزا لنشاطاتها، حيث تصدر الخال "السبع" المظاهرات، واصدار المطبوعات السرية المنددة بانقلاب القصر على حكومة النابلسي، والأحزاب الوطنية الأردنية في المدينة ومدن أخرى في الضفة الغربية، ما جعله هدفا للنظام الذي لاحقه، ولم يتمكن من اعتقاله، فصدر عليه حكماً غيابياً بالإعدام، ما دفعه للهرب، إلى أن قُتل على يد المخابرات السورية خنقاً في دمشق في العام 1976، وأُصدرت له شهادة وفاه أفادت بأنه توفي بذبحة قلبية.                 

أمسكت بطرف "قمباز" جدي الذي خرج من الملجأ، وهو غرفتان أسفل منزله في السفح الشرقي لجبل "العقدة"، وسار خلفه عدد من "كناته" واطفالهن، وعدد من الجيران، وهو يرفع مذراة القمح معلقا عليها حطته البيضاء، متجها نحو مجموعه من الجنود الاسرائيليين، الذين صوبوا أسلحتهم نحونا وقال أحدهم بعربية ركيكة “ الزلام بوقف ووشه ع الخيط (الحائط) " !!   

إنها المرة الاولى في حياتي التي أرى فيها يهودا، وهم من كان يصفهم جدي لنا في ليالي الصيف على سطح منزله، بأنهم حيوانات متوحشة إرتكبوا المجازر في فلسطين في العام الـ 1948، فأطلقت آنذاك لخيالي العنان، فأصبحت صورتهم في ذهني أنهم بشر مثلنا، إلا أن لهم أذنابا يخفونها في سراويلهم.. قلت لنفسي "حتما سيقتولونا ويلتهمونا"!! 

كنت مرتعبا جدا لدرجة إنني اصبت بــ "شريه"، من لطخات حمراء شديدة الحك على جلد بدني النحيل.. ها أنا أقف امام الموت وجها لوجه، ولم ينبت بعد الشعر على وجهي ولا على عانتي، قلت ما هي الا لحظات حتى يفرغ الجنود رصاص اسلحتهم بأجسادنا جميعا، بعد ان اجبرونا على الوقوف في صف، الواحد الى جانب الآخر ووجهونا الى الحائط!!

 مضت اللحظات كأنها ساعات، ولم يطلقوا النار.. الا أن أصوت القذائف وازيز الرصاص كانت تدوي في دماغي، فيما جنازير الدبابات تحرث اسفلت الشارع الرئيس المؤدي لنابلس، وأصواتها تختلط بأصوات اللاسلكي المبحوح، بلغة لم تألفها أذناي من قبل.     

كان الصيف قد حل، وبدأت قشور اللوز بالانفلإق، ايذانا بنضوج ثماره، مخالفا القول بأن اللوز هو "اول من يزهر وآخر من يثمر"، وكانت اشجار التين والعنب أيضا تستعد لطرح ثمارها قريبا، أما القمح فأنحنت سيقانه من ثقل سنابله، وصبغت المروج والجرود المزروعة به بلون الذهب، وكان لا يزال ينتظر الحصاد، بعد انشغال زارعيه ببناء الملاجئ في الكهوف القريبة من منازلهم، او تهيئة الغرف تحتها، فالحرب ستشتعل في اي لحظة.

فاجأت الحرب الكثيرين من الجيران قبل تهيأتهم ملاجئهم للاحتماء فيها، إذ سقطت قذائف    المدفعية الاسرائيلية الثقيلة على "جبل العقدة " قبل ان ننتهي من تهيئة ملجأنا في "المغارة" القريبة من بيتنا، مما اضطرنا للجوء الى "الطرقة" في بيت جدي، في سفح الجبل الشرقي.   

تساءلت: اين ذهب الجنود الاردنيون النظاميون وافراد الحرس الوطني الذين كانوا يتمركزون في جبلنا الذي يعد بوابة السهل الساحلي، والذي بالإمكان رؤية مدينتي نتانيا والخضيرة وشاطئ المتوسط منه؟ لقد كانوا أكثر من مئتي جندي، مزودين ببطارية مدفعية ثقيلة ومدافع هاون وأسلحة اخرى!! أين اختفوا ؟! .. ولم تكد تمض عدة ساعات على القصف المدفعي، حتى اندفع المشاة الاسرائيليون واخترقوا تحصينات الجيش والحرس الوطني الاردني في الجبل والتلال المجاورة دون إطلاق رصاصة واحدة!!

 

Loading...