مقالات مختارة

إسرائيل واحتمالات بقائها | جواد العناني

 

 

 

هل تمثل الإحصاءات المتداولة حقيقة رأي يهود الولايات المتحدة في إسرائيل وأن  95% منهم يحملون نظرة إيجابية عنها؟ أم أن هناك أخطاء كثيرة في الوصول إلى هذا الاستنتاج؟ هذا التساؤل كان موضوع بحث هام نشرته الكاتبة " كارولين مورغانتي" (Caroline Morganti) في عدد الشهر العاشر (أكتوبر) من مجلة " قضايا يهودية معاصرة" أو " Jewish Currents.

وبشكل مُلخص، فإن البحث يطرح تساؤلات كثيرة حول النسبة المتداولة في الصحف ووسائل الإعلام الأميركية، والتي تدَّعي أن 95% من يهود أميركا ينظرون إلى إسرائيل باحترام وإيجابية. وقد أتت هذه النسبة المرتفعة انعكاساً لما صرح به المرشح الجمهوري دونالد ترامب عام 2019 بأن كثيراً من اليهود الليبراليين والديمقراطيين غير موالين لإسرائيل (وإلا لصوتوا له). وقد قام أحد الباحثين بأخذ عينة صغيرة تعدادها (128) شخصاً وصفوا أنفسهم على أنهم يهوديو الديانة، وتبين بعد سؤالهم عن رأيهم في إسرائيل أن حوالي (121) منهم قد قالوا إن نظرتهم إلى إسرائيل إيجابية. ومن هنا استُغِلت هذه النسبة من الأبواق الإعلامية المؤيدة لإسرائيل والحركة الصهيونية.

ولكنْ هناك باحثون يهود رصينون، وليسوا بالضرورة مُعادين أو معارضين للصهيونية، يرون في حجم العينة المستخدمة أنه صغير جداً ولا يمثل الغالبية من يهود أميركا، ويقولون إن العينة متحيزة إلى المحافظين من اليهود الذين يميل غالبيتهم إلى نصرة إسرائيل. ويتغاضى عن الحقيقة أن 22% من يهود أميركا لا يقولون عن أنفسهم إن اليهودية ديانتهم، ومعظمهم يأخذ موقفاً سالباً من ممارسات إسرائيل العدوانية على الشعب الفلسطيني. ولذلك، يريد نسبة من اليهود العلمانيين المتعلمين إسرائيل أن تكون حريصة على سمعتها، وهؤلاء لا يرون في الحكومة الحالية الإسرائيلية أي دلائل على أنها تسلك سلوكاً حضارياً أو ديمقراطياً أو أخلاقياً يقبلون به.

والواقع أن الحرب في غزة أظهرت بحسب مسوحات أجراها " مركز القدس للأمن والقضايا العامة Jerusalem Center for Security Public and Affairs في شهر حزيران/ يونيو من العام 2024 أن ثلث يهود أميركا يوافقون على الاتهامات لإسرائيل بأنها ترتكب مذابح عرقية ( Genocide) في قطاع غزة، وأن (60%) منهم يوافقون على إقامة دولة فلسطينية. وأظهر ذلك المسح كذلك أن 51% من اليهود الأميركيين يؤيدون قرار الرئيس جو بايدن بعدم تزويد إسرائيل بشحنات الأسلحة عندما هددهم بذلك.

ومع أن هذه الأرقام وغيرها من الإحصاءات تظهر غضباً أميركياً على إسرائيل وجيشها وقادتها وحكومتها والمتطرفين الحاكمين فيها، لكن إسرائيل ومؤيديها الأقوياء لم يقفوا صامتين، بل استثمروا كل ما لديهم من نفوذ في الإعلام، والشركات التكنولوجية، والشركات الصناعية، والقطاع المصرفي والتأميني والتجاري والفندقي وكازينوهات القمار، والانتخابات الأميركية التي أجريت في شهر نوفمبر/تشرين الماضي 2024 من أجل الحد من المظاهرات والانتقادات والتوجهات الناقدة لإسرائيل.

ومنذ شهر حزيران/ يونيو الماضي، والمساعي تبذل لوقف إطلاق النار، إلا أن ذلك لم يثمر، بل على العكس، قد رأينا إسرائيل والغرب يتبنيان استراتيجية عدائية ضد كل الجبهات والجهات التي وقفت نداً لإسرائيل. وبفضل نجاح الإعلام الغربي كله في إظهار الحرب على غزة وضد الفلسطينيين بأنها حرب على أنصار إيران وحلفائها في المنطقة، بدأ التعاطف مع الفلسطينيين يأفل ويتراجع في مظاهره وتعبيراته، وما كان إرسال السفن الحربية وتعزيز الوجود العسكري الغربي إلا مقدمة من أجل "هزيمة" حماس في غزة بمذابح ومجازر تقشعر منها الأبدان والأرواح، والتصدي للقادة العسكريين المناوئين لإسرائيل في غزة والضفة الغربية المحتلة وفي إيران وجنوب لبنان وسورية والعراق إلى أن نالت من حدة المقاومة، وبدأت إسرائيل تتصرف في عملها العسكري وتصريحاتها السياسية وأسلوب تفاوضها مع حماس وحزب الله على أنها هي المنتصرة والكاسبة لهذه الحرب.

ومع تسارع الأحداث في سورية، وتهميش لدور إيران وهو أمر ترفضه طهران وقد تسعى لتغييره، وصعود لدور تركيا وجد العرب عامة أنفسهم أمام أمرين متناقضين. الأول هو أن سورية بقيادتها الجديدة بدأت تظهر عقلانية في التعامل مع الأقطار العربية الأخرى، وهو أمر شاهدنا نقيضه في خطاب الرئيس السابق بشار الأسد قبل ذلك بأسبوعين في مؤتمر القمة العربية الإسلامية المعقود في الرياض. وهكذا بدت سورية، رغم ضبابية الرؤية وصعوبة تحديد هوية القيادة السورية الجديدة، أنها أكثر ميلاً إلى تطبيع علاقاتها مع جيرانها، وهو أمر يساعد جيران سورية على تحسين أوضاعهم الاقتصادية، وتقليل محاولات تهريب المخدرات والأسلحة، وضبط العمليات الإرهابية، وفرصة لعودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم الأم. ولذلك غُلِّبت المصلحة على الشكوك.

ولكن التناقض الذي يواجهونه هو أن إسرائيل رأت في تحييد الجبهة السورية فرصة لاحتلال مزيد من الأراضي في سورية ولبنان، والتمسك بمناطق معزولة في شمال غزة، وفرصة للاستمرار في قتل أهل غزة وتهديمها، وفي الهجوم على المقاومة في اليمن. وتوج كل هذه الأمور نجاح مجلس النواب اللبناني بعد محاولتي تصويت في انتخاب جوزاف عون، قائد الجيش ليكون رئيساً للجمهورية بعد إعسار دام سنتين، وفي نجاح الرئيس الجديد في اختيار رئيس جديد للوزراء. ومهما وضعت أقنعة على الوجوه لتخفي المشاعر الحقيقية، فإن الطريق أمام حزب الله ليكون " بيضة القبان" أو المحرك الأساس" قد ضاقت كثيراً. ولبنان يسعى اليوم للانضمام إلى الصف العربي الراغب في فترة سلام طويلة حتى تستطيع الأنظمة العربية أن تحقق الكثير من الإنجازات الاقتصادية التي تضمن لها فرصة الانطلاق والتحول والعصرية.

قد يبدو الظرف العربي كله ساعياً من أجل فترة للراحة من الحروب ومن الفتن والاقتتال، وتسكين الخلافات وإن استطاعوا تصفيرها. وهذا ينطبق على دول الخليج ذات الموارد المالية الأوفر، وعلى دول الهلال الخصيب التي ذاقت الأمرين من حروب الطوائف، والفتن، والتدخلات الخارجية خاصة سورية والعراق ولبنان. وآن الأوان أن يجد الفلسطينيون لهم طريقاً لكي يبنوا مؤسساتهم، وللأردن أن يستفيد من عودة الحياة الطبيعية إلى شركائه في المنطقة وجيرانه الأقرب لكي يهدؤوا ويبنوا ويستعيدوا حياتهم وممارسة سيادتهم الكاملة على أراضيهم حتى ينعم الأردن بذلك كله.

إذن فالمنطقة تقف الآن على مفترق طرق، ومن الممكن أن يدعو الغرب وإسرائيل معه الدول العربية من أجل استثمار هذه الفرصة المتاحة، مما قد يعزز قدراتهم الاقتصادية والإنتاجية، أو أنهم يعودون إلى مسيرتهم السابقة بالتآمر ضد العرب، والسعي لشحن الفتن والخلافات الطائفية. ومن أجل أن تبقى إسرائيل ممثلة بحكومتها الرديئة الحالية مسيطرة- بحسب وهمها- على الأوضاع في المنطقة ومتطلعة إلى أن تكون وسيط المنطقة مع بقية العالم.

إن مصادر قوة إسرائيل خلال الخمس عشرة سنة الماضية ليست فقط في تفوق إسرائيل العسكري أو التقني، ولكنه انقسام الصف العربي، وشرذمته. ولا يخفى على أحد عربي مهما كانت ولاءاته ومرجعياته أن يتجاهل هذه الحقيقة. ولكن هذا لا يعني أبداً أن نعود إلى أفكار الوحدة العربية التي ثبت أنها تستخدم ضدنا أكثر مما نستخدمها نحن لصالحنا. ولكن إدراك هذا الواقع لا يعني أن نتجاهل أننا جيران، وأننا شركاء في كثير من الأمور التي تجعلنا أقدر على التفاهم بدلاً من التناحر. وعلينا أن ندرك أننا لسنا مستعدين عسكرياً للهجوم بقدر ما نحن جاهزون للدفاع. وهذا إنجاز.

إذن فكل قياداتنا العربية أمام التحدي الأكبر وهو تحقيق النمو المطرد، وتنويع الاقتصاد، وحسن توزيع المغانم والمغارم بعدالة. وهذا الإنجاز يتطلب منا أن نكون عقلاء في علاقاتنا الثنائية ومتعددة الأطراف، وأن نسعى إلى جهد جديد. وهذا يتطلب منطقياً وعلمياً أن نبني لأنفسنا نماذج جديدة لبناء علاقاتنا الاقتصادية والتجارية والثقافية، وأن نستفيد من المشتركات بيننا في الثقافة والأدب والحاجات الإنسانية لتصبح مشروعاتٍ ضخمة، وأن نتبنى نظاماً أمنياً يحمي بعضنا من بعض، وأن نعيد النظر في مؤسساتنا المشتركة لتقوم على مواثيق جديدة تتناسب مع المرحلة الجديدة.

حينها سيجد كثير من دول العالم أن له مصالح قوية في التعامل معنا، ولا يبقى أمام إسرائيل إلا أن تدرك أننا قابلون للتعامل معها إن غيرت أسلوبها المتطرف في الحكم، وانتهت هذه الحكومة المتخلفة، وأعطت للفلسطينيين حقوقهم المشروعة وفق برنامج مدروس تمنح مقابل كل إجراء فيه باباً للتعامل مع الوطن العربي.

أما أن تعتقد إسرائيل أن هذه الأمة العربية ستقبل بها كما هي الآن، فهو ضرب من الخيال الواهم. وعلى إسرائيل أن تعي أن مستقبلها في المنطقة مرهون بقبول جيرانها لها، وليس بتأييد أوروبا وأميركا. ورغم كل ما تدعيه إسرائيل من غنى وتفوق فهي لا تساوي 1/8 ما تملكه كاليفورنيا وحدها. وانظر ماذا فعلت النيران بمدينة لوس أنجليس في كاليفورنيا؟ فهل ستتبقى إسرائيل في ظل تراجع سمعتها ومكانتها وما رأيناه من خلخلة في بنيانها فليس أمامها إلا أن تكون جزءاً من نسيج هذه المنطقة، وإلا فإن مصيرها هو مصير كل الغزاة الذين سبقوها.

 

 

 

Loading...