يذكّرني الجدل الدائر هذه الأيام بشأن تسمية ما انتهت إليه الحرب على غزة (نصر أم هزيمة) بذلك الجدل الذي كان مستعراً وعلى مدى أشهر داخل لبنان وخارجه بشأن العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006 حيث صمد حزب الله وقتذاك وأرغم إيهود أولمرت وقتذاك أن يستنجد بواشنطن لإصدار قرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي يجرى الحديث عنه اليوم باعتباره المرجعية التي استند إليها وقف إطلاق النار في لبنان بتاريخ الأول من أكتوبر الماضي، ففي العقل العربي بشكل عام تغييب المقاييس النسبية فهو عقل يؤمن "بالمطلق"، فإما أبيض أو أسود لا مكان فيه أبداً للون الرمادي وهو عقل كونته عوامل عدة منها الاجتماعي والثقافي وحتى البيئي (أي البيئة أو الطبيعة والصحراء عامل مهم في ذلك) ومن الغريب أن نتنياهو شخصياً وخلال الحرب على غزة التي استمرت 15 شهراً استخدم تعبير "النصر المطلق" وهو تعبير عربي – شرقي بامتياز ولا أعلم ماهية العوامل والأسباب التي أثرت على الرجل ودفعته لاستخدام هذا المصطلح.
في محاولة لتعريف النصر المطلق فإن علماء الحروب أو استراتيجيات الحروب يقولون أن النصر المطلق تحدده ثلاثة عوامل أساسية وهي:
أولا: إعلان الاستسلام ورفع الراية البيضاء.
ثانيا: يتبع ذلك إملاء الشروط المذلة معنوياً والمرهقة استراتيجيا والتي تمنع المهزوم من القدرة على أن يعود ليشكل خطراً في المستقبل ومثال ذلك ما جرى في الحرب العالمية الثانية لألمانيا واليابان وإيطاليا.
ثالثا: تحويل المهزوم إلى حالة دائمة من التبعية تمنع قدرته على الاستقلال بقراراته الوطنية أو القومية.
والسؤال هنا هل صفقة التبادل بين المقاومة بقيادة حماس وإسرائيل بعد عام وثلاثة أشهر من الحرب واستشهاد ما يقارب 56 ألف شهيد ومئات الآلاف من الجرحى وهدم وتدمير أكثر من 90 % من قطاع غزة تنطبق عليها العوامل السابقة للنصر المطلق الذي أراده نتنياهو أم لا؟؟
في الجواب وبكل تأكيد لم يتحقق ولا أي شرط أو عامل من العوامل الثلاثة وأصرت المقاومة على أهم عناصر بالصفقة:
• وقف شامل لإطلاق النار بعد نهاية المرحلة الثانية من الصفقة أي بعد انتهاء 46 يوما من بدء سريان تنفيذ الاتفاق.
• السماح لسكان شمالي القطاع بالعودة إلى منازلهم المهدمة في إلغاء لخطة الجنرالات التي ابتدعها الجنرال الاستراتيجي ايغورا ايلاند الذي وصف الصفقة بأنها فشل مدوي لإسرائيل ونصر لحماس.
• ادخال المساعدات فورا للقطاع وهي 600 شاحنة يومياً من خيم وكرفانات ووقود ومواد غذائية.
• انسحاب إسرائيلي من محور فيلادلفي وانسحاب إسرائيلي من معبر رفح.
من الناحية العملية تعد كل العناصر السابقة بمثابة تنازلات مؤلمة للجانب الإسرائيلي يضاف لها كسر المبدأ المقدس الذي شدد عليه الكابينت الإسرائيلي مراراً وتكراراً وهو أن الصفقة لن تشمل من أسمتهم أصحاب " المؤبدات " أو من (أيديهم ملطخة بدماء الإسرائيليين) ومن المعروف أن الإفراج عن المعتقلين المقاومين أو الذين قتلوا إسرائيليين مسألة حساسة للغاية ومؤلمة ومذلة لصانع القرار في إسرائيل وللجمهور الإسرائيلي الذي خارت معنوياته جداً بعد السابع من أكتوبر 2023.
يقول ايتمار بن غفير وسموتريتش أن صفقة التبادل تمثل انتصاراً لحماس وهي جائزة ثمينة للإرهاب الفلسطيني وتنازل خطير سيغري "الإرهابيين" للقيام بأعمال إرهابية في المستقبل، أما جدعون ساعر وزير خارجية إسرائيل الذي يعد الوجه الآخر لنتنياهو من حيث التطرف فهو يشرح أسباب موافقته على الصفقة للأسباب التالية:
أولا: عدم تحقيق الأهداف العسكرية للحرب رغم الضربات القوية التي تلقتها حماس وعدم القدرة في القضاء على الحركة.
ثانيا: الاضطرار لإنقاذ حياة الأسرى لدى حماس وأضاف قائلا: إن الصفقة واحدة من نتائج السابع من أكتوبر التي مازلنا ندفع ثمنها مشيراً إلى أن أي صفقة مع "منظمة ارهابية" هي صفقة سيئة وصعبة ولكنها ضرورية.
قد يقول قائل وما أهمية مثل هذه الصفقة أصلا والسابع من أكتوبر إذا كان الثمن هو تدمير غزة حجرا وبشرا؟
تساؤل مشروع تماماً ولكن هذا السؤال يصبح وجيها إذا كان من يطلقه يجهل طبيعة الصراع وطبيعة العقل الصهيوني الذي لا يؤمن بوجود شعب فلسطيني وأن التعامل مع هذا الشعب وفق العقلية الصهيونية يجب أن يكون إما بطردهم من أرضهم أو قتلهم وإبادتهم على طريقة إبادة الهنود الحمر في أمريكا.