دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ وإعادة المخطوفين هما فقط بداية عملية طويلة ومؤلمة، على بعد شعرة من انفجار وتحطم الأمل.
أكثر مما يتعلق ببنود الاتفاق، وضمانات دول الوساطة وتهديد ترامب بالجحيم، فإن تنفيذ الاتفاق مرهون، للرعب الشديد، بنوايا ونزوات حكومة إسرائيل و"حماس".
لا تفسر الصيغة الجزئية كل البروتوكولات والملحقات السرية، لكنها توضح بماذا كل طرف ملزم وما هو الجدول الزمني لتنفيذ كل مرحلة، ومن الواضح من الصيغة أيضاً ما الذي سيعتبر خرقاً للاتفاق.
لكن الواقع على الأرض توجد له حياة خاصة به، ومثلما أن الجيش الإسرائيلي غير قادر على أن يكون المسؤول عن أي رصاصة يتم إطلاقها من بندقية جندي هكذا "حماس"، مرة أخرى، ليست الحاكم المطلق في غزة الذي يمكنه منع إطلاق صاروخ أو زرع عبوة على يد "مخرب" معارض للاتفاق.
هذه الأحداث هي المادة المتفجرة التي ستفجر الاتفاق، والاتفاق الحالي أيضاً غير محصن تجاهها.
من أجل حماية الاتفاق من خروقات غير متعمدة والتأكد من أنه سيتم تنفيذه تم يوم الجمعة تشكيل "غرفة عمليات" في القاهرة، تشارك فيها إسرائيل، قطر، فلسطين، والولايات المتحدة. غرفة العمليات هذه هي التي ستراقب ترتيبات تشغيل معبر رفح، وإدارة إدخال المساعدات الإنسانية وتنسيقها، ضمن ذلك إدخال 600 شاحنة للمواد الغذائية والأدوية والمعدات الطبية، من بينها لا يقل عن 300 شاحنة ستصل إلى شمال القطاع و50 صهريجاً للوقود. يتوقع أن يأتي إلى القاهرة أيضاً ممثلون عن الاتحاد الأوروبي، الذي أعلن منحة بمبلغ 123 مليون دولار لصالح المساعدات الإنسانية، لتحديد ترتيبات العمل في المعبر.
حسب تقارير لوسائل إعلام عربية فإن النية هي إعادة تشغيل آلية الرقابة والسيطرة التي تم تحديدها في اتفاق المعابر، الذي وقعت عليه إسرائيل ومصر في العام 2005.
وحسب هذا الاتفاق إسرائيل يمكنها الرقابة "من بعيد" على الحركة في المعبر، ووضع الفيتو على هوية من يدخلون ومواصفات البضائع التي ستدخل إلى القطاع، لكن ممثليها لا يمكنهم الوجود في المعبر.
الترتيبات الجديدة، التي ستدخل حيز التنفيذ، تستند إلى التفاهمات والخطة التي تم طرحها في آب – بعد ثلاثة أشهر على سيطرة إسرائيل على المعبر – عندما قامت إسرائيل ومصر بمناقشة مسألة تشغيل معبر رفح.
في حينه رفضت إسرائيل اقتراح مصر أن يقوم ممثلون عن السلطة وممثلون من غزة غير مرتبطين بـ "حماس"، بالرقابة على الطرف الغزي في المعبر. ولكنها لم تنجح في بلورة آلية بديلة لإدارة المعبر وتوزيع المساعدات.
يوم الخميس الماضي وصل إلى القاهرة ممثل السلطة الفلسطينية، نظمي مهنا، المسؤول عن المعابر والحدود، وأيمن قنديل، نائب الوزير حسين الشيخ، من أجل المشاركة في النقاشات حول إدارة المعبر وترتيبات التنسيق مع مصر.
يبدو أن إسرائيل لن تستطيع تجنب إشراك ممثلي السلطة في إدارة المعبر.
وبخصوص قضية الرقابة وضمان توزيع المساعدات في القطاع، هنا أيضاً يبدو أن إسرائيل ستقف أمام واقع أرادت منعه خلال الحرب ولكن دون نجاح.
أعلنت وزارة الداخلية التابعة لـ "حماس" أن رجالها ورجال الشرطة مستعدون الآن للانتشار في جميع المناطق التي تحتاج إلى عملهم، أي في نقاط المعبر ونقاط توزيع المساعدات لحماية المخازن، وفعلياً السيطرة على ترتيبات التوزيع.
في هذا السياق، حتى الآن من غير الواضح ما هي قواعد الرد وفتح النار من قبل الجيش الإسرائيلي في الحالات التي سيطلق فيها رجال "حماس" النار على السارقين، لأن إسرائيل من المحظور عليها فتح النار على مسلحين طالما أنهم لا يطلقون النار على أهداف إسرائيلية أو على جنود الجيش الإسرائيلي.
يبدو أن الجيش الإسرائيلي سيواصل السياسة التي اتبعها حتى الآن، التي بحسبها استفادت عصابات مسلحة من حرية العمل، لكن في هذه المرة "حماس" هي التي يجب عليها السيطرة على هذه العصابات.
مصر وقطر، عرابتا الاتفاق، هما أيضاً الدولتان الضامنتان لتنفيذه من قبل الطرف الفلسطيني، لكن العبء الرئيس للتفعيل العملياتي على الأرض سيكون ملقى على القاهرة. فهي التي يمكن أن تنسق مع إسرائيل أي دخول للشاحنات، وفحص كل مواد الحمولة للتأكد من أنها تلتزم بالمعايير التي تم وضعها، والسماح أو منع (بموافقة من إسرائيل) خروج جرحى ومرضى بحاجة إلى العلاج، وأيضاً السماح بدخول سكان من غزة علقوا في الخارج قبل الحرب.
هذه مهمة جاءت مع "مكافأة اقتصادية": شركات في مصر، مرتبطة بالمخابرات المصرية أو بملكيتها، هي التي ستقوم بتشغيل خط المساعدات.
وهي أيضاً ستنفذ أعمال إعادة الإعمار الأولية، مثل إزالة الأنقاض وشق الشوارع التي تم تدميرها وبناء أماكن مؤقتة للسكن، وإصلاح البنى التحتية مثل شبكة الكهرباء والمياه.
راكمت مصر تجربة كبيرة في إدارة مشاريع إعادة الإعمار في غزة.
فقد نفذت مشاريع كهذه بعد عملية "الجرف الصامد". شركة "أبناء سيناء"، التي هي بملكية رجل الأعمال البدوي إبراهيم العرجاني الذي لديه "امتياز" من قبل المخابرات المصرية، هي التي شغلت ونسقت نشاطات إدخال المساعدات، وحركة دخول وخروج السكان من القطاع وآليه قبل الحرب وخلالها، إلى حين إغلاق معبر رفح.
تعرضت هذه الشركة لانتقاد شديد من قبل السكان في غزة؛ لأنه طلب منهم دفع آلاف الدولارات مقابل ترتيبات السفر والحصول على تأشيرات. ولكن نشر رؤساء العائلات والحمائل الكبيرة في قطاع غزة، قبل أيام، "لائحة دفاع" عن الشركة. وقد كتب فيها أن هذه العائلات تعبر عن مباركة "أي نشاط لمصر من أجل إعادة إعمار غزة، والتقدير الكبير للدور الذي لعبته منذ بداية العدوان على غزة. إضافة إلى النشاطات التي تقوم بها الشركات المصرية، على رأسها شركة أبناء سيناء".
حسب تقديرات عامة، غير نهائية، فإن حجم الأضرار المباشرة في غزة تبلغ 18 مليار دولار، وإعادة الإعمار تحتاج 30 – 40 مليار دولار. 1.8 مليون شخص بحاجة إلى بيوت، ومئات آلاف الطلاب تقريباً لم يبقَ لهم مدارس.
ولكن غزة ليست "البنت الوحيدة" التي تنتظر تجند الدول المانحة. ففي الطابور توجد الآن سورية ولبنان.
كل واحدة منها بحاجة إلى مساعدة بعشرات مليارات الدولارات، وإعادة الإعمار شرط ضروري لاستقرار الأنظمة الجديدة التي تشكلت فيها في الفترة الأخيرة.
رئيس سورية، أحمد الشرع، الآن، ضمن لنفسه مساعدة تركيا والسعودية وقطر.
وينتظر لبنان وجبات مساعدات مشابهة من الدول الغربية، السعودية، وقطر.
في غزة من شأن قد تتحمل قطر العبء الاقتصادي لإعادة الإعمار وتشغيل الأجهزة المدنية، وهي أيضاً ستعمل بوساطة شركات مصرية.
يبدو أن من يتطلع إلى أن تتوقف قطر عن أن تكون عاملاً مهماً في مستقبل غزة بعد الحرب، سيخيب أمله. فقطر حتى الآن ستكون شريكة حيوية بصفتها الضامنة لتنفيذ كل مراحل الاتفاق. وهي تعمل على استكمال تنفيذ الاتفاق في مرحلتين بدلاً من ثلاث مراحل، كما أوضح رئيس حكومتها، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في مقابلة أجراها مع قناة "الجزيرة".
وقد أكد على أن الاتفاق الذي تم التوقيع عليه للتو يشبه في مضمونه الخطوط العريضة التي تم الاتفاق عليها في كانون الأول 2023. وقال إن قطر تطمح إلى أن تكون المرحلة الثانية "المرحلة النهائية، التي ستنهي الحرب بالكامل دون الحاجة إلى المرحلة الثالثة".
تتحدث المرحلة الثالثة، ضمن أمور أخرى، عن خطة إعادة إعمار القطاع.
يبدو أن قطر ومصر، اللتين تنويان أيضاً عقد مؤتمر دولي لتجنيد المنح لإعادة إعمار القطاع بعد انتهاء المرحلة الأولى للاتفاق، تعطيان أهمية كبيرة لترسيخ إجراءات إعادة الإعمار في المرحلة الأولى وتوسيعها في المرحلة الثانية.
الافتراض هو أن تسريع التطوير وإعادة الإعمار يمكن أن يشكلا كابحا أمام استئناف الحرب في القطاع، ويساعدا على استكمال المرحلة الثانية، التي تعتبر الأكثر حساسية وخطورة بسبب الضغوط السياسية في إسرائيل من أجل استئناف الحرب بعد انتهاء المرحلة الأولى. ثمة افتراض مشابه ساعد على الدفع قدما باتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، لكن غزة قصة مختلفة كليا، بالأساس لأن عجز حكومة إسرائيل وتصميمها على عدم تشكيل أي بديل سلطوي، تمنح حماس الفرصة لإعادة إدارة القطاع برعاية اتفاق دولي.
عن "هآرتس"