ظل الفكر السياسي الفلسطيني محكوماً بثلاثة مصادر مؤسسة، منذ بداية المشروع الاستعماري لبلادنا وهي الإسلامي والقومي واليساري، بتلاوينهم وتعبيراتهم المختلفة. وهي في منظومتها الفكرية تعتمد بشكل حاسم على الخارج، بانتظار توفر عوامل عربية أو إسلامية أو متغير دولي حاسم ينهي بالتبعية أمر القاعدة المتقدمة إسرائيل.
مررنا بنكبتي، 1948 و67، وانطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة في رد على الهزائم العربية، والتي ظلت أمينة لتلك المصادر الثلاث، بثوابت ميثاق منظمة التحرير التي أسسها الشقيري عام 1964.
الانقلاب المفصلي والذي اعتبر في حينه تجديداً وتفكيراً خارج الصندوق ويعيد النظر في الأفكار المؤسسة وميثاق المنظمة كان في العام 74 في الدورة العاشرة للمجلس الوطني للمنظمة بإقرار ما عرف ببرنامج النقاط العشر الذي يمرحل النضال بقيام دولة "على أي جزء يتم تحريره" والتخلي عن فكرة التحرير الكامل وقيام دولة ديمقراطية لكل ساكنيها دون تمييز.
تدعي الجبهة الديمقراطية بقيادة نايف حواتمة أنها صاحبة هذا الاختراق الفكري الذي وصف في حينه بالتاريخي، فيما يدعي آخرون أن القيادي الفتحاوي خالد الحسن هو صاحب الفكرة ونشرها في مجلة الدراسات الفلسطينية عام 71. ولا يخفي قادة الجبهة الديمقراطية أن مرحلة وتقسيم الأهداف الاستراتيجية الفلسطينية كانت ثمرة حوارات "معمقة" مع الرفاق في قسم الشرق الأوسط للحزب الشيوعي السوفييتي وبتأثيرهم. لكن شخصية فذة من قادة الصف الثاني في حركة فتح هو الراحل مرعي عبد الرحمن، أبو فارس، اجتهد طيلة عشرين عاماً من حياته ليثبت وبالوثائق والأسماء أن كل الذين ساهموا في استيلاد "الخراب العظيم" حسب رأيه، هم صهاينة من اليهود الروس تغلغلوا في كل مفاصل الدولة والحزب في الاتحاد السوفييتي، وأن هدفهم هو تحطيم الفكرة الفلسطينية المؤسسة على المصادر الجذرية الثلاث.
من هناك، من العام 74، بدأ ما يعرف في الفكر السياسي الفلسطيني بالواقعية السياسية و"بالتكيف والتكييف والتقييف" الذي يستجيب لـ "موازين القوى" والظروف الدولية والإقليمية، ويصب في النهاية في مجرى الحفاظ على المشروع الاستعماري الإسرائيلي.
لم يمهل الحلف الغربي الاستعماري أصحاب فكرة الواقعية السياسية الفلسطينية طويلاً، إذ كشف أوراقه سريعاً بعد أربع سنوات من تجزئة الأهداف الفلسطينية. في مفاوضات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية، لم تخرج التصورات الخاصة عن رفض فكرة الدولة المستقلة وتقرير المصير واستبداله بإطار جديد هو "الحكم الذاتي"، الذي جسد بالفكرة والنصوص في الوثائق رؤية مناحيم بيغن، وهي ذات النصوص التي أسست فعلياً لمفاوضات أوسلو واتفاقاتها. إدعى المشاركون في إنجازها أنها كانت ستؤسس لدولة فلسطينية مستقلة بنهاية عام 2000، على الرغم من أن رؤية بيغن ظلت هي الأساس الذي يمنع قيام دولة فلسطينية أو تقرير المصير، أوسلو الذي ثبت بالممارسة العملية اللاحقة أنه يبقي الأبواب مفتوحة لاستمرار المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني ولا يوقفه، مهما كانت الادعاءات وتفسيرات صانعي الاتفاق في حينه.
وللتمهيد لذات الرؤية الخاصة بالحكم الذاتي المحدود، كان لابد من توجيه هزيمة ساحقة لمنظمة التحرير وقواتها باجتياح بيروت وكي الوعي الفلسطيني نهائياً باستحالة مشروعهم في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، كانت مذبحة صبرا وشاتيلا برعاية ودعم وتواطؤ أمريكي واضح، رغم كل الضمانات التي قدمها المبعوث الأمريكي فيليب حبيب لياسر عرفات حول حماية المدنيين الفلسطينيين بعد انسحاب القوات الفلسطينية من لبنان.
الخلاصة:
• لا أبالغ ولا أجحف في الاستخلاص، أن النخبة الفلسطينية التي تقود الحالة الفلسطينية منذ عقود لم تراجع وربما لم تتعلم كثيراً من مسيرة الواقعية وسياسة الـ" تكييف والتكيف والتقييف " مع متطلبات واشتراطات الأمريكي والإسرائيلي. فقد استجبنا لفكرة تأجيل الحلول النهائية ودولة منزوعة السلاح التي بدا تداولها مؤخراً على لسان الرئيس بايدن حول صيغ أخرى للدولة الفلسطينية، والتي تُخرج أيضا القدس والحدود واللاجئين من التداول، وعندما يصل هذا التصور إلى إسرائيل ، تبرز رغائبية فلسطينية تقول، إن إسرائيل ستتغير، وأن سيطرة التيار اليميني العنصري والصهيو- ديني مرحلة عابرة في تاريخ إسرائيل وليس تحولاً جذرياً بطيئاً ومستمراً في مبنى الدولة والسياسة والمجتمع والثقافة والوعي الجمعي العميق، والذي يترجم واقعياً بالدولة المنقوصة والمتكيفة "بجزر معزولة وغير مترابطة" في إطار الدولة اليهودية من البحر إلى النهر، ولا تتجاوز فكرة مناحيم بيغن عن الحكم الذاتي المحدود .
• ما حققته حركة حماس في السابع من أكتوبر، رغم الكلفة الإنسانية العالية والتي تحاكي أهداف اجتياح بيروت ومجزرة المخيمات، يعيد التأسيس لفكرة جوهرية، ليس فقط بالعودة إلى جذر الصراع الوجودي مع المشروع الاستعماري الصهيوني، وإنما ليصوب عقلية "التكييف والتقييف" المستمرين في الممارسة السياسية الفلسطينية، بما هو مقبول وغير مقبول إسرائيلياً وأمريكياً، قبل الاتفاق على المبادئ والثوابت الأساسية.
• المراجعة المطلوبة، ليس لفكرتنا والثوابت والممكن، وإنما وقف رمي أوراق القوة والتفريط بالوحدة الداخلية، على مذبح الوعود الخادعة، وتقديم تنازلات مجانية قبل توفر ضمانات دولية وإقليمية واضحة للحلول. ما يعني رفض التنازل قيد أنملة أي ولا شبر، لا في إطار تبادل الأراضي ولا في موضوع اللاجئين أو القدس والمستوطنات، وانسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67.
• المسألة الأخرى التي تحتاج إلى مراجعة، وهي أن الفلسطيني الذي قبل بتجزئة مشروعه وقبول فكرة السلام ووجود دولة إسرائيل على قرابة سبعين بالمئة من أرضه التاريخية، من حقه أن يساءل المشروع الصهيوني برمته، وأنه من أجل السلم الدائم والنهائي والإنساني الرفيع بين كيانين مستقلين، لا بد من تفكيك كل البنية الاستعمارية الصهيونية، دستوراً وقانوناً وثقافةً وسياسة وتوفر ضمانات دولية لهذا التحول. دولة تعترف بمسؤوليتها القانونية والعملية عن نكبة الشعب الفلسطيني، ومن طرفنا يمكن إضافة استعدادنا لنوع جديد ومبتكر للعلاقة المستقبلية بالاتحاد بين كيانين وثقافتين وسرديتين وحرية الإقامة والتنقل لكلا الشعبين داخل الجغرافيا التاريخية.