مقالات مختارة

شتاء غزة | أ. خضير بشارات

 

 

 

لم تنته الحرب المسعورة على الوطن بل زادت ضراوتها، واشتد لهيب قاذفاتها المضروبة على الأبرياء، تنزل الأطنان ليل نهار بما تحمل من حقد وسموم قاتلة، تستهدف الحياة في غزة و بيروت، صواريخ تحمل النار لتحرق كل الحياة، طوابق سكنية تتساقط، تتساوى مع الأرض بل تغوص فيها أمتاراً، وقد  اثبتت الحرب المسعورة والمحرقة الصهيونية  في غزة والتي لازالت مستمرة منذ خمسة عشر شهراً أن الأمة العربية و الإسلامية لا تملك من أمرها شيئا،  كما و كشفت بُعد أنظمتها عن الشعوب المضطهدة، في مثل هذا الوقت والذي تمر فيه القضية بأخطر مراحلها نتذكر قادة هذا الشعب الذين نذروا حياتهم لدفع الظلم عن فلسطين وقضيتها العادلة، الذين رسخوا منهج المقاومة ووطدوا خيار المواجهة مع الاحتلال ولم يقبلوا مهادنته على حساب النضال الفلسطيني الذي شرعته الديانات السماوية قبل المواثيق الأرضية. 

 جاء شتاء العام الثاني للمحرقة الصهيونية ومعه فصول جديدة من المأساة على أهلها وسكانها وأبريائها الذين لازالوا يعانون بطش الآلة العسكرية دون هوادة.

تعجز الأقلام عن وصف ما يحدث في غزة من مجازر وانتهاكات  ضد الإنسانية  التي كشف زيفها ما نراه في غزة وما يكتب عنها من يوميات عبر الوسائل المتنوعة، التي توضح حجم الألم والمعاناة التي يعيشها الناس في خيمهم،  دخل الشتاء ومعه كل أشكال  الوجع و الحسرة داخل ما تبقى من  حياة المواطنين  وجزيئاتها المختلفة، امطرت  السماء ألما على غزة، أناس حفاة يمتشقون عناء العيش فلا يجدون سواه، يتساقط المطر، في الوقت الذي تضرب فيه  آلة الاحتلال جنونها  يختلط الماء المتدفق من السماء مع هدير الصواريخ المتدفقة من جنون الشر الصهيوني فتحترق الخيم الممزقة،  فقد خرقها رصاص الهمجية المتوحشة ومزقتها رؤوس الصواريخ، عراة يعيش الناس في غزة لا منازل  تحميهم من حر القنابل الصهيونية ولا تأويهم من برد الشتاء، تضرب الرياح ما تبقى من شوادر الخيم المعلقة في الفراغ، تبتلعها المياه، تجرف معها وتقتلع ما تحتويه كل الخيم، صراخ الأبرياء لا يوصل هول الطامة التي أصابتهم، تضرب الهمجية الصهيونية كل ما يدب على الأرض،  تقصف النازحين الذين يتنقلون من سراب إلى آخر عسى أن يجدو حياتهم في مكان ما فيه ظل خيمة أو شعاع شمس، ولكن أصوات الآليات العسكرية يلاحقهم في كل سراديب المدينة ومخيماتها وبلداتها غير الآمنة،  كل شيء مباح لعسكرية الاحتلال،  أطفال صغار يفترشون الوحل وتغطيهم ملابسهم المبللة والممزقة على مرأى ذويهم فتقتلهم الحسرة والعجز أمام هول الكارثة، تبكي النساء حال الأهل،  يصرخن في وجه العدالة العالمية، يجردن الدول العربية من إنسانيتها وعدم شرعيتها. فهي تقف عاجزة، وضيعة متآمرة مع الاستعمار على غزة، لا تستطيع أن تقدم ولو رغيف خبز أو حبة دواء أو شربة ماء أو بطانية يلتحف بها طفل رضيع تأكله أمطار تشرين، ما أقساك يا تشرين!

وأنت تمطر الصغار بردا وصقعة، فتخطلت براءتهم مع بقايا الخيم العالقة بحديد المنازل التي هدمها الاحتلال، فويحك أيها العدو وأنت تحيل نعمة المطر إلى وبال وكارثة سيخلدها الزمن ليكون وصمة عار وذل على من يدعي العدالة والإنسانية في هذا العصر الذي نعيش فيه ونتعايش مع واقعه الظالم وعلى مرأى الجهات التي ترعى حقوق الإنسان.

الشتاء في غزة هو انتشار الوباء بين الناس يمشي بينهم أسرع منهم، فقدان المأوى و الخيمة بل أصبحت الخيمة جزءا من الكارثة حيث تتمزق وتأخذها العواصف فتتفطر القلوب كمدا عليها، يحاول البعض أن يتمسك بها أو ببقاياها فهي موطنهم الوحيد الذي يحملونه حيث يرزحون علها تحمل معهم شيئا من الذكريات الحرى.

 في غزة يموت الناس شهداء ولكنهم يرفعون شارات الكرامة والعزة التي أخمدت نيرانها أمة العرب والمسلمين على اتساع رقعتها الجغرافية، يدافعون عن شرف العروبة ويدونون بدمهم صفحات الفخر والإباء، كيف لا؟ وهم يستقبلون عذاب البرد والحرب على حد السواء ويمتشقون أنفسهم للمسير نحو العلا والسؤدد، يمشون بين زخات الرصاص وغضب المطر، ليكونوا جسرا للحرية والاستقلال.

نساء ورجال، صبية وفتيات، رضع وعجائز لا يلبسون ما يقيهم البرد والمطر، تظهر امرأة أمام سيل الماء الذي تجرفه غزارة المطر، تهرب من البرد والماء حافية القدمين لا تقي نفسها إلا بحذاء بسيط بلا جوارب أو بجوارب، تلف جسدها ببطانية خرقة يدخلها الهواء من كل المسامات، تلجأ إلى خيمتها الممزقة، تقف مدهشة غارقة في تفكيرها الجياش، تحدق ببعد نظرها إلى ما هو مجهول عبر المياه المتدفقة، تركض وهي تضم نفسها.

 بتلك القطعة السكنية التي مرقها الصليب عبر حواجز الموت الصهيونية وبمختلف محطات التفتيش، ترسم المرأة الفلسطينية معاناة النزوح الفلسطيني بما تشهده من بكاء وصراخ وتنقل من مكان إلى آخر تحت رشقات المدافع العدوانية، تودع ابنها الشهيد، وهي تغني لفلسطين، تقدمه فداء للتحرير، تحمل طفلا آخر أصابته شظية من فوهات الحقد الصهيونية، تلحق بمواكب النازحين وتبحث عن زوجها الذي فُقدت آثاره منذ شهور. ترفع يديها تتوسل إلى الله أن يجتمع شمل العائلة من جديد، لندفن من استشهد في مقابر نعرف حدودها فهي أصبحت لهم الوطن وسينعمون بحريته الأبدية، تقف بجانب الخيمة تتأمل فضاء غزة مدنها مخيماتها شوارعها، مساجدها كل معالمها التي اندثرت، تطلق أنهودتها المثقلة وتغيب ملامحها مع ميلان شمس ذلك اليوم إلى الغياب.

 

 

 

Loading...