فرض الأمريكيون حكاية اليوم التالي في غزة منذ الأيام الأولى لاندلاع الحرب الإسرائيلية عليها.
وقد حوّلت هذه الحكاية الأنظار عن حرب الإبادة التي موّلتها ورعتها أميركا لتصبح قضية موازية استفاد منها الإسرائيليون في تبرير إطالة أمد الحرب، واستفاد منها الأمريكيون باستخدامها كمبرر لعدم نجاح وساطاتهم في احراز وقف لإطلاق النار.
بعد نجاح المرحلة الأولى من الصفقة الراهنة، والفضل في ذلك يعود لحاجة الرئيس المنتخب ترمب، لبدء دورته الرئاسية بإنجاز عجز منافسوه عن الإتيان بمثله.
يتصاعد الحديث مجدداً مع أنه لم يتوقف حول اليوم التالي، والسؤال الرئيسي فيه.. من يحكم غزة بعد توقف الحرب؟
أصبح من المسلّم به أن حماس لن تحكم غزة، مع أنها تبحث في وسائل مباشرة أو غير مباشرة، لأن تكون شريكاً في أي صيغة حكم أو إدارة لغزة، أي أنها تتنازل عن الواجهة دون التنازل عن التأثير.
إدارة غزة تبدأ كموضوع جدّي حين تنسحب إسرائيل منها، أمّا ما قبل ذلك فسوف يكون الأمر تكيفاً مع أجنداتها، وتحت الأسقف المنخفضة التي تقتصر على إداريات في غاية المحدودية، فلو بقي حاجز عسكري واحد في غزة فالسلطة الفعلية ستكون له.
إن حكم غزة -ومفردة إدارة أكثر دقة منها- ينبغي أن تتم من خلال ثلاث حلقات مترابطة.
الأولى – الفلسطينية، بحيث تتم كل الترتيبات المتعلقة بغزة بقرار من منظمة التحرير، وأداتها السلطة الوطنية.
وفي غزة ما يكفي ويزيد من الكوادر الفلسطينية والمؤسسات الوطنية كالبلديات والنقابات، بما تحتويه من خبرات مشهودة في الإدارة، وهذه الخبرات بحاجة إلى إعادة تنظيم وليس إلى استبدال.
الثانية – العربية، التي لا غنىً عن وجودها المباشر داخل غزة ومن حولها، وأي وجود عربي شقيق في غزة لا يثير حساسيات كما لو أنه تدخل أجنبي، وحتى قبل الحرب، كان الفلسطينيون ينادون على العرب كي يأتوا إليهم وفق مبدأ... إنكم تأتون لدعم السجين وليس للتطبيع مع السجان.
وهذه الحلقة تمثل فيها مصر موقعاً مركزياً ليس فقط بحكم التاريخ والجغرافيا وإنما بحكم إدارتها لكل الملفات المتصلة بغزة، كالمصالحة والتهدئة مع إسرائيل، خلال كل الحروب التي لم تتوقف وفي مسيرة السلام منذ أيام الراحل عرفات إلى يومنا هذا.. مصر كانت وما تزال على تماسٍ مع كل ما يحدث في فلسطين ومن ضمنه الجانب الأمني في غزة.
الحلقة الثالثة – الدولية، وهنا ينبغي أن تُفتح كل الأبواب أمام المؤسسات الدولية للدخول إلى غزة، عبر الممر السياسي الشرعي الذي تجسده منظمة التحرير والسلطة الوطنية والممر الجغرافي الذي تمتلك مفاتيحه مصر، وفي حال تأسيس إطار دولي، لمشروع إعادة الإعمار الضخم، فلن يكون جديداً على الفلسطينيين التعامل مع تواجد المشاركين في إعادة الإعمار عبر ممثليات رسمية ووفق الآليات المتبعة في الضفة، حيث التنسيق اليومي والدقيق مع السلطة الفلسطينية ومؤسساتها.
عبر هذه الحلقات الثلاث ووفق إدارة مهنية متقنة للعلاقات بينها، تحل قضية إدارة غزة في اليوم التالي.
أمّا ما هو أهم من كل ما تقدم فهو الصلة بين حكاية اليوم التالي على غزة، وحتمية الدخول إلى مسار سياسي لا بد منه لحماية كل ما تقدم، مسارٍ لحل القضية الفلسطينية جذرياً، ذلك بعد أن أدركت الإدارات الأمريكية قبل غيرها حقيقة أن هذه القضية لو بقيت بعد كل الذي حدث بدون حلٍ يرضي الفلسطينيين. فالحرب إن توقفت بعد استكمال مراحل الصفقة الثلاث بشأن غزة، فإن حرباً قادمةً ستظل واقفة وراء الباب، واندلاعها من جديد مسألة وقت ليس إلا.