منذ وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض للمرة الثانية والمتغيرات المتسارعة على كافة المستويات الدولية والإقليمية والمحلية.
أمام ذلك فقد مثّل خطاب ترمب في تنصيبه عرضاً مروّعاً مليئاً بالكراهية والتركيز على العظمة الوطنية والوعد الإلهي، مثل ظهور أي اتجاه تاريخي جديد، تتعدد الآراء حول معناه.
لقد هاجم الإدارة السابقة، المهاجرين، وشرائح واسعة من الأمريكيين، بجانب سكان أمريكا اللاتينية وباقي العالم.
لقد استلهم ترمب خطابه من أول خطاب إذاعي لهتلر عام 1933، حيث هاجم النظام السابق ووعد بعصر جديد من العظمة الوطنية مغلفة بمصطلح نشر السلم. لقد أعاد ترمب هذه الرؤية باستخدام مصطلح "عصر ذهبي"، ولكنه عملياً يخدم رؤية فاشية متنامية ذات أبعاد اقتصادية أمام أزمة النظام الرأسمالي اليوم.
من هنا رسمت إدارته سياسة مشوهة في الشرق الأوسط تتسم بالنفاق السياسي والفاشي، والتوجهات العقائدية المتطرفة إضافة إلى الصفقات التجارية، والانحياز الكامل إلى إسرائيل وفكرة الترانسفير. هذه السياسة لم تكتفي بتجاهل الحقوق الفلسطينية، بل عززت الهيمنة الإسرائيلية، بينما قدمت أوهاما من خلال شخصيات مثل مايك بولس وجيسون ويفكوف. وفي الوقت ذاته، أظهرت السياسات الأمريكية تحت إدارة ترمب غياب أي مصلحة حقيقية في دعم إقامة دولة فلسطينية مستقلة، مما يعمق المعاناة الفلسطينية ويدفع باتجاه تصفية القضية.
وعود زائفة وشخصيات وسيطة
باعتقادي، لعب مايك بولس، الملياردير من أصل لبناني ووالد زوج تيفاني ترمب، دوراً في تقديم وعود للفلسطينيين بأن هناك فرصة حقيقية لإحداث انفراج في ظل إدارة ترمب. هذه الوعود تبعت نمطاً أمريكياً مكرراً في بيع الوهم للفلسطينيين، حيث يتم الترويج لحلول اقتصادية أو سياسية وهمية دون تقديم أي التزامات حقيقية. كذلك، سعى جيسون ويفكوف مبعوث ترمب للشرق الأوسط، إلى الترويج لدور وساطة مع الفلسطينيين، حتى أنه أبدى رغبة في زيارة غزة. لكن في الواقع لا تتعارض هذه المبادرات مع سياسات الإدارة التي تسعى لتكريس الاحتلال الإسرائيلي وتعزيز الاستيطان في الضفة الغربية بالإضافة إلى مشاريع الضم والالحاق.
مشروع الهيمنة الإسرائيلية ضمن الإستراتيجية الأمريكية
التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل يعتمد على مصالح استراتيجية عميقة من ضمنها محددات دينية وحضارية ثقافية، وهو ما يجعل من فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة تتعارض مع التوجهات الأمريكية. إسرائيل تمثل قاعدة استراتيجية لواشنطن في المنطقة، ومن ثم، فإن تعزيز قوتها يخدم المصالح الأمريكية. في هذا السياق، كان دعم إدارة ترمب للمستوطنات الإسرائيلية ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة موحدة لإسرائيل خطوات تؤكد أن واشنطن ترى في استمرار الهيمنة الإسرائيلية خياراً استراتيجياً طويل الأمد.
فالموافقة على قرار حكومة الاحتلال الإسرائيلية تمديد وجود جيش الاحتلال في لبنان بعد انتهاء المدة وفق اتفاق الهدنة يندرج في هذا السياق من جهة.
ومن جهة أخرى، من الواضح أيضاً أن أجندة ترمب قد أسقطت الأردن من حساباتها تماماً، هو حصار اقتصادي يريد ترمب أن يفرضه على الأردن لدفعه للتماهي مع مشروعه السياسي في المنطقة واستقبال الفلسطينيين من غزة على أراضيه، ذلك المشروع الذي فرمله الأردن الرسمي إبان فترة الرئيس ترمب الأولى في البيت الأبيض، والآن تجري المحاولة مرة ثانية تحت سياسات التلويح بالتهديد من خلال قطع المساعدات.
من جانب آخر فإن السفير الأمريكي لدى إسرائيل، مايك هاجابي، والمندوبة الأمريكية لدى الأمم المتحدة عكسا هذه السياسات بوضوح. هاجابي، وهو من الإنجليكيين المتشددين، يؤمن بما يسمى "الحق التوراتي" لليهود في الضفة الغربية، ويرفض إطلاق تسمية "مستوطنات" على التجمعات الإسرائيلية هناك. وبالمثل، أكدت المندوبة الأمريكية لدى الأمم المتحدة في تصريحاتها على هذا الحق، مما يعكس عمق التأثير العقائدي في صنع القرار الأمريكي.
البعد العقائدي والتأثير الانتخابي
لا يمكن فصل سياسات ترامب عن قاعدته الانتخابية، التي تتألف بشكل كبير من المسيحيين الصهيونيين أو الإنجيليين. هذه الجماعات ترى في دعم إسرائيل واجباً دينيا وأيديولوجيا. بالنسبة لهم، فإن "أرض إسرائيل الكبرى" تمثل جزءًا من عقيدتهم، مما يفسر الدعم غير المشروط الذي تحظى به إسرائيل من هذه الأوساط. هذا التأثير العقائدي لعب دوراً كبيراً في دفع إدارة ترمب لتبني سياسات تخدم المشروع الإسرائيلي بالكامل على حساب الحقوق الفلسطينية.
فمنذ توليه منصب الرئيس، قام ترمب أيضاً بإلغاء العقوبات المفروضة على المستوطنين، ورفع الحظر عن شحنة القنابل إلى إسرائيل، داعياً إلى نقل الفلسطينيين قسراً مع اقتراح "إخلاء مناطق".
غياب المصلحة في إقامة دولة فلسطينية
إذا ما نظرنا إلى سياسة ترمب بواقعية، يتضح أن إدارته لم تكن ترى أي مصلحة حقيقية في دعم إقامة دولة فلسطينية مستقلة أو تمكين الفلسطينيين من تقرير مصيرهم كما كل الإدارات السابقة. المصلحة الأمريكية تركزت على تعزيز الهيمنة الإسرائيلية، سواء من خلال خطوات سياسية مثل "صفقة القرن" التي تجاهلت تمامًا الحقوق الفلسطينية المشروعة، أو من خلال تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول عربية مثل الإمارات والبحرين، إضافة إلى المملكة العربية السعودية التي تتصدر الأولوية اليوم في دائرة الضغط الأمريكي لتوقيع اتفاق تطبيع مع إسرائيل.
وهم التنمية وعقلية الصفقات
يتعامل ترمب مع القضايا الدولية، بما فيها القضية الفلسطينية، من منطلق "عقلية الصفقات". بدلاً من التركيز على تحقيق العدالة أو معالجة الجذور السياسية للصراع، ينظر ترمب إلى المنطقة كمكان للربح الاقتصادي. تصريحاته حول غزة بأنها "فرصة استثمار سياحية رائعة" ليست سوى مثال على هذه النظرة التجارية الضيقة، التي تقلل من أهمية وواقع معاناة الشعب الفلسطيني وتحول قضيته إلى مشروع تجاري.
السياسات الأمريكية تجاه غزة والمبادرة الجديدة
في الوقت نفسه، ظهر تصريح من ترامب في الآونة الأخيرة يوضح رؤيته لما بعد الحرب في غزة، حيث اقترح أن تقوم مصر والأردن باستقبال الفلسطينيين من غزة، قائلاً "نريد تنظيف هذا المكان بالكامل"، مما يعكس فكره الفاشي والمزيد من الاستهانة بالقضية الفلسطينية وإصراراً على تحويلها إلى ملف آخر بعيد عن الحقوق التاريخية السياسية للشعب الفلسطيني. هذه التصريحات تتماشى مع التوجهات الأمريكية التي لا تملك أي نية حقيقية لتحقيق السلام أو إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة أو تمكين شعبنا في حقه بتقرير المصير.
سياسات ترامب تجاه الشرق الأوسط، خاصة القضية الفلسطينية، تعكس نهجاً استراتيجياً يخدم الهيمنة الإسرائيلية والدور الأمريكي بالمنطقة التي تسعى له لاعتبارات استراتيجية مختلفة، بينما يقدم وعوداً زائفة للفلسطينيين من خلال النفاق السياسي. في ظل هذا الواقع، يصبح من الضروري علينا نحن الفلسطينيين توحيد صفوفنا وفق رؤية استراتيجية واضحة والعمل على إعادة ترتيب الأولويات الداخلية والسياسية والديبلوماسية لمواجهة التحديات المتزايدة، بما في ذلك تجاوز الأوهام المرتبطة بأي دور إيجابي لإدارة أمريكية منحازة لإسرائيل وذات توجهات فاشية.