الانتظار... لا شيء سوى الانتظار

دونالد ترمب الذي لم يفارقنا شبحه طيلة الأربع سنوات الماضية، وصل رسمياً إلى البيت الأبيض، الجنون الأمريكي المعروف بقرارته الجريئة التي يتعدى تأثيرها حدود أمريكا مما يشكل مصدر قلق بالنسبة للعالم، الصين أشد قلقاً، وروسيا أقل قلقاً، والعصيان الأوروبي يلوح، والشرق الأوسط والعالم العربي الذي لا مكان له في لعبة الأمم يستعد، بعد أن تم تحضير المنطقة بحرب طاحنة شنها سلفه بايدن، ترمب أتى بأجندة تصادمية غير طبيعية، طرح الأشياء بطريقة فجة والتلويح بالعصا، وبالطريقة الترامبية "أنا أمريكا، أنا العالم"، العصر الذهبي للولايات المتحدة الأمريكية يعود مجدداً بعودتي، لكن من الخطأ اعتبار ترمب صوت نشاز فهو يتكلم باسم النخب التجارية والاقتصادية والصناعية، واللوبيات النفطية والصهيونية ويترجم رؤيتهم الاستراتيجية.

دول العالم محتاجة أمريكا، وأمريكا لا تحتاج لأحد، ففي الحلبة لاعب واحد، قرر اتباع سياسة الهيمنة على نحو لا يصدق، فأصبح خليج المكسيك خليجاً أمريكياً، ويناور على غرينلاند وكندا، فضلاً عن ملف اللاجئين، أليس ترامب لاجئاً؟!، يريد أن يفعل كل ما بوسعه لتحسين الاقتصاد الأمريكي المرتبط بالاتحاد الأوروبي والصين وبكل دول العالم، وحماية صناعة أمريكا وجذب الشركات للاستثمار داخلها "وإلا" ستفرض عليها رسوم جمركية، عودة التعرفة الجمركية على جميع الواردات وخصوصاً قطاع السيارات والمعادن بنسب قد تصل إلى 60%، وغيرها من التدابير الاقتصادية القسرية ضد حلفاء الولايات المتحدة بمن فيهم الاتحاد الأوربي لخفض العجز التجاري، قد توجه ضربة قوية لاقتصادات الدول الأوربية وخاصة ألمانيا وفرنسا، التي تعتمد بشكل كبير على التصدير، خاصة صناعة السيارات والأدوية. ويرى ترامب أن حل مشكلة الاقتصاد الأمريكي بخفض الانفاق ورفع الانتاج والاستيلاء على الاستثمارات والتطوير والبحث العلمي والتكنولوجيا، والصين لها الريادة، سيحاصرها بعد أن خسرت أمريكا مبدأ المنافسة التجارية معها، وسيزيد التنافس الصيني الأمريكي في العالم، ويخنق اقتصاد الصين، وهو ما يهدد بتأجيج الصراع بين أمريكا والصين واتساع نطاقه، وقد يقتصر على العقوبات الاقتصادية مقابل تراجع الصين عن المنافسة القطبية.

النظام الدولي القائم على مؤسسات دولية كبيرة سيواجه صعوبات بعد قرار ترامب الانسحاب من منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ، نظافة الكوكب لا يعيره أدنى اهتمام، وبدل التركيز على الطاقة النظيفة أصدر تشريعات لزيادة النفط الأحفوري فتصبح أمريكا مع الصين من أكثر الدول التي تلوث الكوكب، سيخفض أسعار النفط ويصدره، فالنفط الأمريكي ضد النفط العربي، والعرب بمأزق كما العالم وربما أسوأ، طالب الأوبك+ بخفض أسعار النفط  برأيه أن ارتفاع أسعاره وراء استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، بمحاولة لنكز بوتين وتجنب نقده  بشكل مباشر، وربما لتبرير فشله بإيقاف الحرب خلال 24 ساعة، ترامب لا يستطيع القيام بتغيير استراتيجي في الموقف الأمريكي من أوكرانيا وحربها إلا ضمن حدود معينة، ايقاف الحرب الآن يخرج بوتين منتصراً، وسقوط أوكرانيا يعني سقوط دول أوربية أخرى، وهذا أمر لا ترغب به الدولة العميقة في أمريكا بغض النظر عن موقف ترامب المعادي للحلف وللاتحاد.

دول الخليج التي انضمت للبريكس تدرك أن الحماية العسكرية الأمريكية لن تكون دون مقابل، يؤكد ذلك محاولات ترامب للضغط وابتزاز حلفائه من الدول العربية والاتحاد الأوروبي، طرح مشروع اقتصادي ضخم بقيمة600 مليار دولار استثمار من السعودية، وربما خسائر أمريكا المرعبة بحرائق لوس انجلوس ستدفعها دول الخليج، وطرح موضوع تسليح الناتو "لماذا نحن ندفع كل هذ الأموال لحلف الناتو"، وطلب ترامب من أعضائه زيادة ميزانيتهم الدفاعية إلى5% من قيمة الناتج المحلي، "للتنويه، هو لا يطلب هو يفرض"، أوروبا على المحك في أمنها الطاقي وعجزها في حسم التهديدات الوجودية سببت تباينات وخلافات عميقة بينها، بعد أن خسرت ألمانيا مكانتها الجيوسياسية عما كانت عليه في عهد المستشارة انجيلا ميركل، وماكرون البطة العرجاء في فرنسا تحت وطأة اليمين المتطرف، هذه الدول تحاول أن تأخذ ترامب على محمل الجد وتسايره حتى تمر الأربع سنوات دون الصدام مع الولايات المتحدة، لا أحد سيتجرأ لمواجهة الجنون الأمريكي، والحل بالانتظار، لا شيء سوى الانتظار!!.

فيما يتعلق بإسرائيل، إسرائيل لها حصة الأسد، فالمعركة مفتوحة في جنين والضفة الغربية وقد تستمر أكثر من ذلك بكثير، ولا تعنيه هذه المسائل، وعندما يتحدث أن أمور كارثية قد تحدث إذا تم خرق اتفاق غزة، يعني التنصل منه، والسردية التي يجري الترويج لها أن الاتفاق بمضمونه قد يكون فيه الكثير من مواطن الخلل فهذا مسؤولية بايدن الفاشل العاجز، وأما ايصال الاتفاق إلى حد التنفيذ واطلاق سراح الرهائن فهذا انجاز ترمب والفضل يعود له مجدداً، كل العملية هنا استعراضية لصالح شخصه الكريم، أما فيما يتعلق بالتهديد والتلويح يترك الأمر كما كل المؤسسة الأمريكية لإسرائيل كي تقرر، شهدنا بزمن بايدن الدعم كان مطلق لإسرائيل مالياً وعسكرياً ولوجستياً، مع بعض الأصوات الناقدة لفظياً، لكن في زمن ترمب لن نشهد هذه الانتقادات، وأن ما تقدم عليه إسرائيل من إساءة لا تبدو حالة استثنائية لأن هو القاعدة وهو القدوة طالما رئيس الدولة العظمى في العالم يقدم على ذلك. 

ترمب "كعراب لإبادة الشعب الفلسطيني سياسياً بصفقة القرن"، يضع تعهده بتوسيع إسرائيل لتأخذ مداها التوراتي، قيد التنفيذ، بفتح مقايضات ضمن إطار الأمن مقابل السلام، والدق على وتر الصراع الطائفي بالمنطقة، "مساعدة سكان غزة في العثور على أماكن أخرى لبدء حياة جديدة"، فكرة رائعة نالت رضا اليمين الإسرائيلي، ليضغط على مصر والأردن لنقل سكان غزة والضفة، وإفراغ فلسطين من العرب لتصفية القضية الفلسطينية، والتي ستتبعها قرارات ضم الضفة وإعلان السيادة على القدس وهدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل تتويجاً لتحقيق الحلم التوراتي "إسرائيل الكبرى"، بعد أن أعلن نتنياهو احتلال أجزاء من سوريا ولبنان بعد خرق اتفاق الهدنة، ونحن لا حول لنا، المرحلة المقبلة الأشد خطورة منذ نهاية الحرب الباردة، "والأكثر غموضاً في التاريخ" كما يصفها الأوربيين، ولكن ثمة حرائق تنتظر الرجل.. أشد هولاً من حرائق لوس انجلوس، وما علينا سوى الانتظار، لا شيء سوى الانتظار.

 

Loading...