تشهد المنطقة هذه الأيام تحركات دبلوماسية مكثفة مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض وخطابه الأخير، حيث يسعى لإعادة ترتيب الأوراق في الشرق الأوسط وفق رؤيته المنحازة لسياسات الهيمنة ولإسرائيل بشكل غير مسبوق. في هذا السياق، جاءت جولة ستيف ويتكوف مبعوث ترامب إلى السعودية وإسرائيل وغزة، والتي حملت إشارات متعددة بشأن مستقبل القضية الفلسطينية، وموقع السلطة الفلسطينية، ودور السعودية في رسم ملامح المرحلة المقبلة.
واشنطن.. إعادة ضبط التحالفات وفرض الوقائع
تحاول إدارة ترمب اليوم إعادة تموضع سياستها في الشرق الأوسط بعد تغييرات جوهرية تبعت فترة حكم ترمب الأولى بالإضافة إلى إدارة بايدن الفاشلة والشريكة بعدوان الإبادة، بدءً من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة، وصولاً إلى اتفاقات التطبيع التي دفعت بها تحت مسمى "اتفاقيات أبراهام" وصولا إلى خطابه القومي الفاشي وقراراته الأخيرة بشأن المستوطنات والمستوطنين ودعوته لنتنياهو كأول ضيف رسمي للبيت الأبيض والموقف من وكالة الأونروا، وفي مناهضة حقوق شعوب العالم وتهديد سيادة دولها تحت شعارات "وقف الحروب" الكاذب والمزعوم.
واليوم، ومع اشتداد الأزمة في غزة وتداعياتها بعد عدوان الإبادة الذي لست متأكداً من عدم استمراره بعد اتمام مراحل الصفقة، تأتي جولة ويتكوف كمحاولة لإعادة السيطرة على المسار الديبلوماسي وفق أجندة أمريكية صرفه تتمثل في:
1. إعادة فتح قنوات التواصل مع الفلسطينيين وفق شروط أمريكية.
فلقاء ويتكوف مع أحد المسؤولين من منظمة التحرير في الرياض "كما أشار موقع أكسيوس الإعلامي" يوم الثلاثاء، يعكس رغبة واشنطن في إعادة إدماج السلطة الوطنية ضمن خطتها، ولكن بشروط أمريكية إسرائيلية. فلا يمكن اعتبار هذا اللقاء تحولاً إيجابياً بقدر ما هو محاولة أمريكية لاستخدام السلطة الوطنية الفلسطينية كورقة تفاوضية في إطار خطط التطبيع الجديدة، وربما في سيناريوهات إدارة غزة ما بعد الحرب.
2. تعزيز مسار التطبيع السعودي - الإسرائيلي.
لقاء ويتكوف مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يأتي ضمن الجهود المستمرة لدفع اتفاق تطبيع بين الرياض وتل أبيب. ولكن بخلاف الصيغ السابقة، فإن الإدارة الأمريكية تحاول هذه المرة دمج القضية الفلسطينية بشكل أو بآخر، إما عبر "وعود بمسار" ربما يقود إلى دولة فلسطينية، طبعا وفق المفهوم الأمريكي الإسرائيلي للدولة كمعازل جغرافية دون سيادة، أو عبر ترتيبات جديدة تشمل غزة قد تقود إلى كيان منفصل تحت الحصار الإسرائيلي أو كما رآئها ترامب كمشروع استثماري سياحي تحتكره شركات المليارديرات الأمريكية الكبرى.
زيارة غزة.. بحث عن حل أم فرض مشروع جديد؟
زيارة ويتكوف لغزة، وهي الأولى لمسؤول أمريكي منذ عشرين عاماً، ليست مجرد خطوة ديبلوماسية، بل قد تكون مقدمة لفرض حلول جديدة تتماشى مع الطرح الإسرائيلي بشأن القطاع. ومع تصريحات ترمب الأخيرة حول إمكانية تهجير الفلسطينيين، لا يمكن استبعاد أن هذه الجولة تهدف إلى اختبار سيناريوهات التوطين تكراراً لمشروع جونسون بخمسينات القرن الماضي رغم اسقاطه وطنيا آنذاك، أو فرض إدارة جديدة على غزة بمعزل عن منظمة التحرير الفلسطينية، صاحبة الولاية السياسية والقانونية وفق كافة الاتفاقيات والشرعية الدولية، وبعيدة عن حماس أو بمشاركتها كسلطة أمر واقع تخضع للتجديد.
السعودية.. وساطة تكتيكية أم صفقة كبرى؟
تظهر السعودية في هذه التحركات كوسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكن السؤال الأساسي يبقى، ما الذي تريده الرياض من هذا الدور؟
باعتقادي تسعى السعودية إلى تحقيق مكاسب استراتيجية من واشنطن، سواء على مستوى الدعم العسكري أو الضمانات الأمنية، ولذلك فإن دورها كلاعب عربي في تحديد أوضاع دول مجاورة مثل لبنان، وإقليمي ودولي يمنحها ورقة ضغط مهمة في المفاوضات مع إدارة ترامب. في الوقت نفسه، تدرك الرياض أن أي خطوة نحو التطبيع تحتاج إلى غطاء عربي، ولهذا تحاول إقناع الفلسطينيين بقبول مسار تفاوضي جديد، حتى لو كان بمكاسب شكلية فقط.
لكن في ظل التوجهات الإسرائيلية - الأمريكية، لا يبدو أن هناك نية لمنح الفلسطينيين أي حقوق حقيقية، بل مجرد تنازلات شكلية لا تمس جوهر الاحتلال الاستيطاني، ولا تؤهل إلى حق تقرير المصير.
هامش مناورة فلسطيني ضيق وخيارات صعبة
اللقاء بين ويتكوف وأحد القياديين الفلسطينيين يعكس حقيقة واضحة، وهي أن السلطة الفلسطينية تواجه مأزقا استراتيجيا. فبعد سنوات من القطيعة مع إدارة ترامب، وجدت السلطة الوطنية نفسها أمام ضغوط لإعادة فتح قنوات التواصل، لكن ضمن شروط لا تصب في مصلحة دورها الوطني ومصلحة شعبنا الفلسطيني.
وفي هذا السياق، تبرز محاولات من بعض القوى، وعلى رأسها "حركة حماس"، لفتح حوار مباشر مع واشنطن وفق تصريحات قادتها، وهو ما يشكل تجاوزاً لدور منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ويهدد وحدة التمثيل الوطني الواحد. إن أي حوار فلسطيني-أمريكي يجب أن يتم من خلال مظلة منظمة التحرير التي بل شك تتطلب المصلحة الوطنية العليا اليوم استنهاضها وفق الآليات الديمقراطية، لا عبر قنوات منفصلة ومنفردة، حتى لا يتم تجاوز القرار الوطني الفلسطيني المستقل والموحد افتراض أو فرض مسارات تتعارض مع المصلحة الوطنية العليا لشعبنا.
في الوقت ذاته، هناك محاولات لتشكيل إدارة جديدة لغزة قد تشمل حركة حماس بترتيبات إقليمية، مما قد يشكل بديلاً للسلطة الوطنية الفلسطينية في غزة. وقد يكون هذا جزءًا من الضغط الأمريكي-السعودي على السلطة الفلسطينية للقبول بشروطهم التفاوضية.
الموقف الفلسطيني المطلوب، كيف نواجه هذه المخاطر؟
في ظل هذه التحركات، يجب على الفلسطينيين إعادة تقييم استراتيجياتهم واتخاذ موقف واضح وصارم لمنع أي تصفية للقضية الفلسطينية من خلال:
1. رفض أي مسار تطبيعي يكرّس الاحتلال، يجب الضغط على السعودية والدول العربية لربط أي اتفاق تطبيع بتنازلات إسرائيلية حقيقية تفضي
إلى تجسيد الدولة ذات السيادة والمتواصلة على حدود ما قبل 4 حزيران 67، وليس مجرد وعود فارغة أو مسارات واهية.
2. التصدي لأي مشاريع تهجير بأي صيغة، لا يمكن السماح بإعادة إنتاج نكبة جديدة تحت أي مبرر، سواء كان تحت غطاء "التنمية" أو "إعادة الإعمار".
3. رفض أي إدارة لغزة خارج إطار منظمة التحرير، أي ترتيبات سياسية أو إدارية لغزة يجب أن تكون جزءًا من مشروع وطني متكامل، وليس مفروضة من قوى إقليمية أو دولية، على أن تتسع المنظمة للكل الوطني الفلسطيني بشكل عاجل.
4. تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في "بكين"، يشكل اليوم استجابة لمطالب أبناء شعبنا بالوحدة الواسعة، وهو برأيي الحل الأمثل للخروج من هذه الأزمات بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه بين الفصائل الفلسطينية، عبر تشكيل حكومة توافق وطني، سواء كانت حكومة وحدة وطنية أو حكومة مقبولة دولياً وإقليمياً وفق برنامج سياسي توافقي بمرجعية منظمة التحرير والتي تحتاج سريعا إلى تفعيل هياكلها ودورها كحركة تحرر وطني ديمقراطي.
5. بناء تحالفات جديدة خارج الدائرة الأمريكية - الإسرائيلية، يجب استثمار العلاقات مع الصين، روسيا، وأمريكا اللاتينية والدول الافريقية وغيرها من الأصدقاء بالاتحاد الأوروبي لمواجهة الضغوط الأمريكية وخلق بدائل دبلوماسية واقتصادية حقيقية.
6. إعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس توافقية واضحة، لا يمكن لشعبنا وقيادته السياسية مواجهة هذه التحديات دون وحدة وطنية حقيقية في إطار منظمة التحرير بمكانتها كجبهة وطنية عريضة وممثل شرعي وحيد تستجيب لمتطلبات شعبنا وأصدقاءه حول العالم من خلال دورها المفترض منذ خطاب الشهيد المؤسس ياسر عرفات بالأمم المتحدة عام 1974، وما تبع من اعترافات دولية بها ومن مكانة لدولتنا عام 2012 التي يجب أن تستكمل نحو العضوية الكاملة.
معركة تقرير المصير مستمرة
اتصالات الملياردير بولص أحد المقربين على ترمب وزيارة ويتكوف ولقاءاته الإقليمية ليست مجرد خطوات دبلوماسية في ظل تصريحات مندوبي ترمب بالأمم المتحدة وتل أبيب حول الحق التوراتي، بل هي جزء من صراع طويل على مستقبل القضية الفلسطينية. يجب أن يكون الموقف الفلسطيني أكثر حذرا واستعدادا للمواجهة السياسية والدبلوماسية وأكثر جرأة بمواجهة الاشتراطات، مع القدرة على فرض شروطه بدلًا من الانجراف خلف وعود كاذبة وسرابية. إن الرهان الحقيقي يجب أن يكون على الإرادة الشعبية الفلسطينية والمقاومة السياسية، الدبلوماسية، القانونية والشعبية، واستثمار التضامن الدولي الواسع وبناء تحالفات جديدة، ولنا في رد الرئيس الكولومبي على ترمب نموذجا في ذلك، فالهزيمة ليست قدراً.