المقاومة الفلسطينية، بين التراكم التاريخي ووحدة المصير الوطني

أثار انتباهي في الأيام الأخيرة عدد من المقالات التي تتحدث عن مفهوم الهزيمة والانتصار، ورغم احترامي لأصحابها من كتاب المقال السياسي، إلا أني أجد نفسي مختلفاً مع ما جاء في البعض منها ومتفقاً مع أخرى، راغباً في إيجاز رؤيتي حول الأمر في هذا المقال.

فمنذ انطلاقة "فتح" عام 1965 وما تبعها من انطلاق تنظيماتنا الثورية الفلسطينية الأخرى، وما قبل ذلك زمن الانتداب البريطاني من كفاح الحركة الوطنية، شكّلت المقاومة الفلسطينية حجر الأساس في مواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني، وتحولت بمفهومها الواسع إلى ركن ومكون رئيسي في معادلة الصراع. واليوم فإن محاولة فهم المقاومة بشكل علمي ومنهجي وفق ظروف المكان الزمان الموضوعية والذاتية، لا يعني بالضرورة التوافق مع فكر أو أيديولوجيا فصيل معين لتأييد المقاومة أو رفضها. فالمقاومة كفكر ومنهج ليست ملكاً لتنظيم بعينه أو حكراً على أحد، بل هي تعبير عن إرادة شعبية عامة تمتد عبر محطات مسيرة حركتنا الوطنية وعلى اتساع مختلف مكوناتها بهدف دحر الاحتلال ومن أجل الحرية والاستقلال الوطني وهزيمة المشروع الاحتلالي الصهيوني في فلسطين.

وهنا لابد أن نقف طويلاً عند عبقرية الأمل وأسطورة النصر وخرافة قوة الاحتلال، لأنها مجتمعة شكلت الركائز الفكرية في فلسفة الزعيم الخالد ياسر عرفات.

لقد صعد الفينيق الفتحاوي عالياً بالبدايات وأصبح يشكل رمز الحرية والكرامة في فلسطين، هذا الفينيق الذي انتظر طويلا حتى ينضم كل المناضلين الفلسطينيين تحت لوائه لكنه لم ينتظر طويلا، فانطلق رافعاً شعار "نلتقي على أرض المعركة"، بتحريض صريح أن الثقافة الوطنية لا تدعم القول بدون فعل مقاوم. فالتقى الجميع حينها في منظمة التحرير وفي أرض المعركة. مما جعل العمل الفدائي والمقاومة الوطنية مقياساً حقيقياً لجدية العمل السياسي والتنظيمي. فتشكلت الجبهات والأحزاب الفلسطينية ضمن هذه الثقافة الوطنية المقاومة التي جسدت الهوية الوطنية المستقلة، والتي لا يوجد مبرر للقفز عنها اليوم وعن دور المستقلين الوطنيين بمن فيهم الشباب طالما لا يوجد أفق جاد لمسار سياسي يُفضي لإنهاء الاحتلال وتحقيق السلام والاستقرار وهو ما يسعى له شعبنا بكرامة، وطالما أيضاً يجنح المجتمع الإسرائيلي أكثر نحو الإرهاب متعدد الأشكال والجرائم، ويغيب عنه ديغول إسرائيلي ولا يقبل بدولة فلسطينية تكرس حقنا في تقرير المصير والاستقلال الوطني، بل ويسعى بوضوح إلى تنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى في كل أرض فلسطين التاريخية من خلال جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وهذا ما سيؤكد استمراره لقاء أصحاب التفويض الإلهي ترمب ونتنياهو اليوم الثلاثاء.

هل علينا أن نثبت أن المقاومة هُزمت؟ أو أن التسوية السياسية انتصرت ما دام الاحتلال قائماً؟

واليوم وفي ظل عدوان الاقتلاع والإبادة الإسرائيلي المستمر منذ عقود، بل منذ جريمة النكبة الأولى، يبرز تساؤل جوهري، هل من المصلحة الوطنية إثبات أن المقاومة هُزمت؟ أو أن أسلوب التسوية في أوسلو قد انتصر؟ ولماذا يعمل البعض القليل على تجميع الأدلة لإثبات ذلك أو عكس ذلك الافتراضين؟ ولماذا نلجأ إلى مناكفات إعلامية هشة في محاولات ليثبت كل منا خطأ الآخر؟ الحقيقة أن هذا الأسلوب من تَناول القضايا لا يخدم وعينا الجمعي الوطني بضرورة الانتصار الذي يتحقق بإنجاز مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي فقط. ولا يؤدي للوصول إلى قواسم مشتركة رغم اختلاف وجهات النظر أو المنهج وهذا أمر طبيعي. هذا الجدل يعزز النقاش العبثي ويزرع الإحباط في النفوس، ويقلل من قيمة المقاومة بكافة أشكالها المتنوعة والصمود الفلسطيني في وجه احتلال استعماري لربما من أكثرهم دموية في تاريخ الشعوب إلى جانب نازية بداية القرن الماضي، ويعزز فكرة بائسة انفصالية وكأننا شعبين في وطن أو شعب في وطنين، بعيداً عن الحقيقة الوطنية الجامعة حول وحدة الأرض والشعب والقضية.

فالمقاومة ليست لحظة آنية منفصلة عن السياق المتحرك للتاريخ ومسار التحرر الوطني، هي حق للشعوب التي تخضع للاستعمار والاحتلال وهي الأداة الكفيلة برفع تكلفته. وهي لا تتمثل بشكل دون آخر وفق مفهومها الواسع الذي قال عنها الشهيد الخالد أبا عمار "إن الثورة ليست بندقية ثائر فحسب، بل هي معول فلاح ومشرط طبيب وقلم كاتب وريشة فنان."

 فلا يتم قياسها بنتائج معركة واحدة أو بنتائج حسابية كالميزان التجاري أو بشكل دون آخر وفق وصف الزعيم الخالد لها. بل هي عملية تراكمية ومتكاملة من أشكال المقاومة المتعددة من النضال ضد الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي الذي لا يشبه أي احتلال آخر عانت منه العديد من الشعوب. فلا يتحقق فيه النصر على المُحتل دفعة واحدة، بل عبر تراكم انجاز ونتائج المعارك على مدار الزمن والمحطات بالحصاد السياسي رغم حجم التضحيات، والتي يمكن بل يجب أن تكون بحدها الأدنى إذا أُحُسن اتباع عقلانية نهج المقاومة وتوفرت وحدة قرار الحرب والسلام بين المكون الوطني الواحد بالأسلوب والمنهج وتقدير صحيح لقوة العدو وردود فعله.

فنحن لا نقاتل كيانٍ بحال وحده بل كل قوى الاستعمار الغربي مجتمعة التي تريد شطب القضية الوطنية لاعتبارات مختلفة يطول الحديث عنها.

إن ما يميز حركات التحرر الوطني العالمية، أنها اعتمدت بمعظمها على الوحدة في إطار جبهات وطنية واسعة و اعتمدت على استنزاف العدو وإجباره على تقديم تنازلات سياسية من خلال تبني منهج حرب العصابات أو الحرب الشعبية طويلة الأمد والكر والفر وإلحاق الخسائر به، وهو ما يجب أن يكون قد تحقق ولو جزئياً ونسبياً بمفهوم الصمود في هذه الجولة من الصراع في غزة تحديداً، كما قبلها من جولات أخرى خاصة في معركة بيروت 1982، من خلال تحطيم صورة تفوق الردع وخرافة "الجيش الأخلاقي" الذي لا يقهر، ومن تصاعد حالة التضامن الدولي غير المسبوقة، ووقوف إسرائيل في قفص القضاء الدولي وظهور تباينات بالمجتمعات اليهودية برزت بشكل لافت خاصة بالولايات المتحدة ومجتمعاتها ذات الاختلاف الإثني والعرقي وفي دولة الاحتلال نفسها التي تكبدت خسائر اقتصادية وبشرية غير مسبوقة وفق أرقامهم. إضافة إلى ما تحقق من الحراك الدولي الرسمي وتحرير آلاف الأسرى الذين خرجوا أحياء من قبور زنازين الاحتلال، وفق اتفاقية لا أدعي معرفة تفاصيلها لكنها فَرضت نفسها على إسرائيل، وبجزء منها حررت من ضحى من أجلنا نحن رغم التضحيات الجسام، كما كانت قد حررت صفقات أخرى خلال عمر ثورتنا آخرين من الابطال الأسرى، في حين لم يلتزم الاحتلال بالإفراج عن عدد من أسرانا وفقاً لاتفاقية سياسية وقعت سابقاً. تماماً كما لم يلتزم باتفاق اوسلو الذي توارد إلى قناعة البعض منا أنه سيؤدي إلى دولة ذات السيادة، الأمر الذي ترجم إسرائيلياً إلى مزيد من الاستيطان والتهويد وانتهاك سيادة كل شبر من مناطق السلطة الوطنية التي قال الأخ الرئيس أبو مازن عنها أنها أصبحت سلطة دون سلطة. فكان اوسلو الذي لم ننتصر به، بعد فشل الاحتلال في هزيمة الانتفاضة الشعبية الكبرى الأولى التي حققت انجازات كان من أهمها انعقاد مؤتمر مدريد للسلام وتبوء قضيتنا الاهتمام الدولي آنذاك.

أما المشروع الإسرائيلي، فهل كان ينتظر 7 أكتوبر لتنفيذه؟

الاحتلال الإسرائيلي لم يكن بحاجة إلى مبرر ليشن عدوانه على غزة رغم أنه يستفيد من أي شكل من المقاومة حتى الدبلوماسية منها، فيستغلها ليبني عليها استمرار ترويج زيف روايته بأنه ضحية التاريخ والمحارق وبأننا نحن الفلسطينيون ثلة من المخربين أو أننا شعب إرهابي تقوده سلطتنا الوطنية التي ترعى الإرهاب، فيقوم بالجرائم.

فالمجازر والإبادة الجماعية والإحلال هي جوهر تنفيذ المشروع الصهيوني منذ ما قبل عام 1948. من يعتقد أن 7 أكتوبر هو الدافع لما جرى بغض النظر عن الخلاف بالرأي حول أحداث ذلك اليوم من ما حققه، يتجاهل الحقيقة بأن الاحتلال كان يسعى منذ سنوات للاستمرار بتنفيذ مخططاته التوسعية في الضفة الغربية أساساً وتدمير غزة وتصفية القضية الفلسطينية وتدمير مشروع حل الدولتين عملياً وبشكل واضح بعد اغتيالهم لرابين وصعود اليمين الفاشي الديني إلى سدة حكمهم. فالمجتمع اليهودي الإسرائيلي بأغلبيته الساحقة لا يريد أن يرى دولة فلسطينية ولا هو مقتنع بمبدأ السلام، وهنالك العديد من الاحصائيات والوثائق وتسريبات الإعلام التي توضح تلك الأرقام والخطط التي أعدتها جهات أمنية إسرائيلية وأعلن عنها ما قبل السابع من أكتوبر وهي موثقة.

ما جرى في غزة بعد 7 أكتوبر هو جزء من خطة إسرائيلية متراكمة، تسعى إلى القضاء على أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات تواصل جغرافي وإلى تنفيذ سياسات التهجير والاقتلاع العرقي لتغير الواقع الديمغرافي في كل أرض فلسطين التاريخية لتنفيذ وعد توراتي مزعوم ارتبط بمفهوم صهيوني عنصري فوقي، ولإنهاء قضيتنا الوطنية التحررية، وليس مجرد رد فعل على حدث بعينه.

المقاومة كحالة تراكُمية وليست لحظة منفصلة

المقاومة تطورت عبر مراحل من تاريخ ثورتنا وكفاحنا الوطني، حيث قادتها تيارات قومية ووطنية ويسارية قبل أن تدخل التيارات الإسلامية إلى الساحة في مرحلة لاحقة رغم امتناعها عن المشاركة فيها وبالكفاح الوطني الفلسطيني وفق مواقف وتوجهات حركة الإخوان المسلمين الدولية التي لعبت دوراً تخريبي بحق الدولة الوطنية بعالمنا العربي منذ نشأتها حتى من خلال دورها بما يسمى بالربيع العربي وصولا إلى الآن كما نرى في غزوة سوريا.

هذه التيارات والتنظيمات الوطنية جميعها، رغم اختلاف رؤاها في إطار غابة البنادق، كانت جزءًا من مسيرة التحرر الفلسطيني، وعلينا بذلك أن نقرأ دور كل منها وفق سياقها التاريخي والمتغيرات التاريخية وحركة تطورها والواقع الذي تحركت فيه دون جمود.

التحليل الموضوعي للمقاومة يعني النظر إلى إنجازاتها وتحدياتها من زاوية علمية كما إلى اخفاقاتها، وليس من منطلق الأيديولوجيا أو الاصطفاف الفصائلي. ولهذا، فإن الاعتراف بدور أي فصيل في مقاومة الاحتلال، بما في ذلك "حماس" و"الجهاد" التي تعيش حالة مخاض بين الوطني والإخواني الدولي، ورغم أنني اختلف مع معتقداتها وتوجهاتها وأصولها الفكرية والسياسية، إلا أن ذلك لا يعني إنكار حضورها منذ أن تأسست في ظروف محددة، بل يعني وضع الأمور في إطارها الصحيح وتطويرها باعتبارها جزء من الطيف السياسي والنسيج الاجتماعي الفلسطيني، الأمر الذي باعتقادي يفرض عليها وطنيا مغادرة مربع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وانضمامها إلى منظمة التحرير باعتبار نفسها تنظيم وطني.

حماس كجزء من المشهد الوطني الفلسطيني والبوصلة الوطنية

قد يختلف الكثيرون مع حماس أو الجهاد سياسياً وفكرياً وأنا منهم كفلسطيني أولاً وفتحاوي يساري ثانياً، كما يختلف غيري مع قوى وطنية أخرى لاعتبارات مختلفة لها علاقة ببرامجها وأداءها ومستوى الأشكال الديمقراطية فيها. رغم ذلك لا يمكن تجاهل أي منها باعتبار قواعدها وبيئتها الحاضنة جميعها تشكل مكونات الطيف السياسي الوطني والنسيج الاجتماعي الفلسطيني إلى جانب المجتمع الأهلي المدني وخاصة الشباب منهم. كما ولا يمكن اعتبار أي منها كياناً خارج هذا النسيج طالما كانت بوصلتها فلسطينية ببعدها الوطني المستقل دون إملاءات من أطراف خارجية، رغم احتياجها كافة إلى تعزيز الديمقراطية والشفافية وتطوير رؤيتها وقدراتها وتبني شعارات اجتماعية اقتصادية تعنى بالعدالة أساساً وتكافئ الفرص ومحاربة الفساد.

إلا إن التجربة الفلسطينية أثبتت أن أي مشروع تحرري لا يمكن أن ينجح دون تكامل القوى السياسية الفاعلة واقترابها من الناس وهمومها، حيث "الوحدة الوطنية هي قانون الانتصار" كما قال الأخ القائد الأسير مروان البرغوثي الذي ننتظر حريته وباقي رفاقه الأسرى جميعهم.

ليس نصراً وليست هزيمة، بل صمود في وجه إبادة جماعية واقتلاع عرقي.

أن نصر شعبنا الفلسطيني يتحقق فقط حين تتحرّر الأرض الفلسطينية من المحتلّ المُستعمر وفق ما ذكرته في سياق المقال. صحيح أن الشعب الفلسطيني صمد وصبر واحتمل.

وهي ليست هزيمة لأن شعبنا الفلسطيني ورغم تضحياته المؤلمة نتيجة الإبادة الجماعية والاقتلاع، بقي صامداً في أرضه ولم يرفع راية الاستسلام البيضاء، ولم يتوان عن النضال ضدّ المحتلّ ببطولات سيسجلها التاريخ كما سجل ما سبقها من أساليب المقاومة كافة، للدفاع عن أرضه ووطنه فهذه أسطورة أخرى تبقى مثار اعتزاز شعبنا كما سبقتها معارك الصمود الأخرى، فلا يسمح لأحد بالتنكر لها ولما سبقها كمعركة قلعة الشقيف دون الحصر لمثيلاتها المتعددة ولدورها في مسيرة كفاحنا الوطني، هذا دون إغفال حاجة التقييم الموضوعي النقدي للأحداث ولكل مراحل المسيرة الطويلة من أجل ضرورة اتضاح الرؤية والبرامج والأدوات اللازمة للمرحلة الحالية.

 

Loading...