شهد السياسة الدولية اليوم صعوداً غير مسبوق للنزعات الفاشية والإمبريالية المتوحشة، حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية مع الرؤى الأيديولوجية اليمينية المتطرفة في مشروع يعيد تشكيل النظام العالمي على أسس القوة المطلقة والإنكار الكامل لحقوق الشعوب وبالمقدمة منها شعبنا الفلسطيني ومحاولة احباط تعددية الأقطاب.
خطاب دونالد ترمب في لقائه الأخير مع بنيامين نتنياهو أمس، إلى جانب السياسات التي تنتهجها إدارته، تضعنا نحن الفلسطينيين وتضع العالم أمام مشهد يذكرنا بالفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، حيث قاد الخطاب النازي العالم نحو الدمار والهاوية.
الانتقام من أوروبا، روسيا في مرمى الفاشية الجديدة
ليس خافياً أن جزءً أساسياً من الأجندة اليمينية العالمية اليوم يرتبط بمحاولة الانتقام من أوروبا، التي كانت الساحة الرئيسية لهزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية. هذا العداء يتجسد في محاولات تقويض الاتحاد الأوروبي، دعم الحركات اليمينية القومية الشعبوية داخله، وإشعال الصراعات على حدوده، كما هو الحال في أوكرانيا.
فروسيا، التي ورثت الإرث السوفييتي في محاربة الفاشية وهزيمة النازية باتت مستهدفة في هذه الحرب، ليس فقط لعوامل جيوسياسية بل أيضاً لكونها القوة التي ساهمت بشكل حاسم في هزيمة الرايخ الثالث النازي عام 1945.
إدارة ترامب، ومن خلفها تيارات اليمين المتطرف في الغرب، تنظر إلى روسيا كعدو استراتيجي يجب تقليص نفوذه وإضعافه، ضمن رؤية أوسع تسعى إلى فرض هيمنة أمريكية لا تتقيد بأي من الأعراف الدولية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية. ولعل العقوبات الاقتصادية، الحرب بالوكالة في أوكرانيا، ومحاولات حصار موسكو، تأتي في سياق هذه المواجهة طويلة الأمد، والتي تهدف في جوهرها إلى قلب موازين القوى العالمية، خاصة مع كافة القرارات التي أعلنها ترامب تجاه دول العالم في إعلان حروبه الاقتصادية ضد الصين وكندا وأمريكا اللاتينية والجنوب العالمي الفقير.
إبادة فلسطين، الخطاب الفاشي يعود من بوابة غزة
أما في الشأن الفلسطيني وبعد القرارات السابقة لترمب بدورته السابقة بشأن القدس والاستيطان، فإن ما يجري اليوم يذكّرنا بخطاب هتلر عام 1933 عندما بدأ بفرض رؤيته العنصرية على أوروبا، مدعياً أن "نقاء" القارة يتطلب إزاحة الأقليات واحتلال الأراضي. اليوم، نسمع لغة مشابهة من واشنطن وتل أبيب، حيث يتم تصوير غزة على أنها "موقع دمار" يجب "إعادة تأهيله"، بينما يجري التلميح إلى تهجير سكانه قسراً من جهة، وضم أجزاء من الضفة إذا لم يكن جميعها إلى كيان دولة الاحتلال في إطار تنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى كأساس لمشروع الشرق الأوسط الجديد. هذه الرؤية ليست مجرد مشروع استيطاني، بل سياسة تطهير عرقي تُنفّذ بغطاء أمريكي كامل لتغير شامل لواقع المنطقة الجيوسياسي وبتعاون أطراف عدة من الحركات الإسلاموية السياسية.
خطاب ترمب لا يخفي نواياه الاستعمارية التي يقف نتنياهو بكل قوة إلى جانبها وكأداة لها، بل يضعها بوضوح أمام العالم، فغزة وفق وجهة نظره لن تكون فلسطينية ولن تكون هنالك دولة فلسطينية بعد كشف المستور، بل ستصبح "ريفييرا الشرق الأوسط" بعد التخلص من سكانها، وربما بنشر قوات أمريكية هناك لضمان تنفيذ هذه الرؤية بالقوة. هذه السياسة تتماهى مع العقلية الفاشية التي لا تعترف بحقوق الشعوب، بل ترى فيهم عوائق يجب إزالتها.
الفاشية والرأسمالية، الهروب إلى الحروب
لا يمكن فصل هذه التوجهات عن الأزمة العميقة التي تعيشها الرأسمالية العالمية اليوم. كما حدث في ثلاثينات القرن الماضي، عندما لجأت القوى الرأسمالية إلى الفاشية كوسيلة للخروج من أزماتها الاقتصادية، فإننا نشهد اليوم محاولة مشابهة. الأزمة الاقتصادية، تصاعد التفاوت الطبقي، أزمات الطاقة، واضطرابات الأسواق، كلها تدفع القوى الرأسمالية والاحتكارية الكبرى نحو البحث عن "مخارج"، غالباً تكون عبر الحروب والهيمنة العسكرية.
في هذا السياق، تصبح الحروب الاستعمارية جزءاً من الحلول التي تتبناها الأنظمة الرأسمالية المتأزمة، سواء عبر إشعال النزاعات كما في أوكرانيا، أو دعم الاحتلال والتوسع والضم كما في فلسطين. ترامب ونتنياهو، ومن خلفهما شبكات المصالح الكبرى، يدركون أن استمرار النظام الاقتصادي العالمي يتطلب صراعات دائمة تعيد توزيع الموارد وتقوي المجمع الصناعي العسكري.
إلى أين يتجه العالم؟
المشهد الدولي اليوم يعيد إنتاج مقدمات الكوارث التي شهدها القرن العشرين. الفاشية تعود بصيغ جديدة وأدوات ربما هي نفسها من مشاركة الحركة الصهيونية، ولكن بروحها القديمة التي لا ترى سوى القوة والاستعمار كأدوات لإدارة العالم. تجاهل المجتمع الدولي لهذه السياسات، والاكتفاء بالاستنكار والتنديد دون اتخاذ مواقف جادة لمواجهة ذلك، لن يؤدي إلا إلى مزيد من التصعيد والتدمير، وقد نجد أنفسنا في مواجهة مفتوحة كما حدث في الثلاثينات عندما أدى التخاذل الدولي إلى اندلاع حرب عالمية مدمرة.
يبقى السؤال اليوم ماذا يتوجب علينا نحن الفلسطينيين أن نعمل وهل نتعلم من دروس التاريخ، وهل نستطيع نحن الفلسطينيين ويستطيع العالم كبح هذه النزعة الفاشية الجديدة وحماية البقاء في وطننا والحقوق الوطنية، أم أننا نتجه إلى صدام دولي لا مفر منه.
رغم أن المشروع الأمريكي باعتقادي يحمل بذور وعامل فشله في ثناياه، لكن علينا ألا نركن لفرضية القدر بل يتوجب علينا بلورة خطة وبرنامج وطني وإقليمي ودولي كي تنتصر إرادة الشعوب.