مقالات مختارة

وزير دفاع إسرائيل يقوّض أمنها! | اوري بار يوسف

 

 

 

تخيلوا السيناريو التالي: ذهب المواطن إسرائيل كاتس الى الطبيب، واشتكى من أنه يعاني من وجع الرأس والغثيان والتقيؤ، وتلعثم في الكلام، وتشوش في النظر والقدرة على التركيز. سيشك الطبيب بأن الامر يتعلق بمشكلة جدية، ويقوم بإرساله لإجراء عدة فحوصات. في النهاية يقوم باستدعائه ويقول له إن التشخيص واضح: يدور الحديث عن ورم في الرأس، لذلك يجب عليه البدء في العلاج الفوري، الذي يمكن أن ينقذ حياته.
لم يتأثر المواطن كاتس. وقام بتوبيخ الطبيب، وقال له لا يمكن للأطباء التحدث عن حالته الصحية. ويعود الى البيت بسعادة وسرور. بعد ذلك سيدفع الثمن، مثل كل من ينفي وجود خطر صحي واضح وفوري. هذا من حقه. من المسموح لكاتس كمواطن محظور عليه كوزير للدفاع، فهو مسؤول ليس فقط عن أمنه الشخصي بل عن أمن دولة إسرائيل. لذلك فان اعلانه في اعقاب تحذير رئيس شعبة الاستخبارات «أمان»، بأنه «لن يكون هناك واقع يطرح فيه ضباط الجيش مواقف ضد الخطة المهمة للرئيس الأميركي ترامب بشأن غزة، وضد المستوى السياسي» – هذا ليس فقط غباء، بل هو جريمة أيضا. يقوّض هذا الاعلان أساسات أمن دولة إسرائيل، ويسرع عمليات خطيرة يمكن أن تتركها بدون جهاز استخبارات بجودة عالية، والذي مهمته الرئيسية هي اعطاء الانذارات مثل التي قدمها رئيس «أمان».
ليس من السهل أن تكون المقيّم؛ الشخص الذي يعطي التقييم الوطني في دولة إسرائيل. ولكن هذه الوظيفة صعبة بشكل خاص في هذه الاثناء. إضافة الى كل المشكلات العادية، التي تحول التقدير الاستخباري الى تحد مهني، من الصعب والخطير على المقيّم الوطني أن يواجه الآن ايضا رئيس الحكومة ووزير الدفاع، والموافقة على تقديرات استخبارية لا تروق لهم. قبل سنتين تجاهل نتنياهو ستة تحذيرات استراتيجية، حذرت من أن أعداء إسرائيل يقومون بالاعداد لعملية بسبب التآكل المستمر لصورة الردع في إسرائيل. الآن صعدنا درجة. لا يتجاهل وزير الدفاع فقط، بل هو ايضا يضرب رأس كل من يحذر من التهديد الآخذ في التشكل.
تحمّلنا الكثير مما «لا يمكن تخيله» في السنتين الاخيرتين، حتى أنه من الصعب علينا التمييز بين الاقوال الفارغة لتالي غوتلب وشلومو قرعي وبين التهديدات الحقيقية التي تضر بقدرتنا على الوجود. التوبيخ الذي وجهه كاتس لرئيس شعبة الاستخبارات هو تهديد حقيقي. فهو يقوض أسس أمن الدولة، ومن المهم معرفة الى أين يمكن أن يوصلنا ذلك.
تستند نظرية امن دولة إسرائيل طوال الوقت الى ثلاث ركائز. واحدة منها هي تلقي تحذير استخباري عن امكانية اندلاع الحرب. الدور الرئيسي لـ «أمان» منذ اقامتها، العام 1948، هو تقديم تحذير عن تهديدات مقتربة. لم تفعل ذلك دائما بنجاح. في حالات كثيرة، لم يتساوق التقدير الذي قدمته لمتخذي القرارات مع السياسة التي حاولوا دفعها قدما. ولكن خلال كل تاريخ دولة إسرائيل وحتى الآن لم تكن هناك أي حالة قامت فيها الاستخبارات بدورها وتم توبيخها على ذلك. هاكم بعض الامثلة:
- سمع دافيد بن غوريون تقدير المختصين بالشؤون العربية في بداية العام 1948، وبحسبه لن تقوم الجيوش العربية بغزو «ارض إسرائيل» عند انتهاء الانتداب البريطاني. ولكنه رفضه وأعد الاستيطان اليهودي للحرب المقتربة.
-عرف موشيه ديان جيداً في ربيع 1973 تقدير «أمان» الذي يقول بأن مصر لن تشن الحرب في السنوات القريبة القادمة. ولكنه حذر الجنرالات في هيئة الاركان من حرب سيتم شنها في الصيف، وصادق لرئيس الاركان على تنفيذ حالة الاستعداد «ازرق – ابيض»، التي هدفت الى تسريع اعداد الجيش الإسرائيلي للحرب الآخذة في الاقتراب.
- استمع اسحق شامير في العام 1991 الى تقدير رئيس «أمان»، اوري ساغي، الذي بحسبه سورية مستعدة لعقد اتفاق السلام مقابل الانسحاب من هضبة الجولان، لكنه فضل البقاء في الجولان.
لا أحد من متخذي القرارات تشكك لحظة بأن التقديرات التي تعارضه متحيزة سياسيا. لقد كان من الواضح للجميع أن التقدير الاستخباري المهني والموضوعي هو لبنة رئيسية في أمن إسرائيل، لذلك لم يفكروا في توبيخ أو توجيه أي ملاحظة للمقيّمين لأنهم عرضوا عليهم التقدير الصادق. كاتس ليس هكذا. فالعمى المتعمد وسلوكه يبشران بمرحلة اخرى خطيرة في العملية التي تؤدي الى تآكل قدرة جهاز الاستخبارات على أداء دوره الاساسي.
بدأت هذه العملية عندما تجاهل نتنياهو التحذيرات التي حصل عليها قبل 7 تشرين الأول. واستمرت بسلسلة الاتهامات بالتشهير ونظريات المؤامرة من ماكنة السم ضد «أمان» و»الشاباك» بهدف نفي أي مسؤولية لرئيس الوزراء عن الكارثة التي حدثت. اكتسبت العملية ايضا الزخم مع مشروع قانون «دائرة صياغة تصور استخباري بديل»، التي تهدف الى خدمة احتياجات نتنياهو السياسية وخلق تهديد على قدرة جهاز الاستخبارات على صياغة تقييم موضوعي غير مشوب بالاعتبارات السياسية. وقد وصلت عملية تسييس الاستخبارات الذروة (المؤقتة كما يبدو) عندما قام الوزير كاتس بعملية التوبيخ.
يمكن أن تستخدم التقديرات الاستخبارية كنجم الشمال بالنسبة لراسمي سياسة الامن القومي. لا يجب أن يكون المرء عبقريا كي يفهم بأن تسييس الاستخبارات يؤدي الى وضع سيفقد فيه جهاز الاستخبارات مكانته، وسيستقيل المهنييون الجيدون منه، وسيتضاءل استعداد اجهزة مخابرات اجنبية للتعاون معه على صعيد المعلومات. في نهاية المطاف سيكون يتشكل من رجال استخبارات يخافون من طرح تقديرات لا تروق للمستوى السياسي، ويقومون بملاءمتها مع اغراض سياسية على حساب مواجهة مناسبة مع الواقع.
في دولة إسرائيل، التي كانت ذات يوم، كان توبيخ كاتس يمكن أن يكلفه منصبه. ولكن الآن هو أداة للترقية. الثمن يمكن أن ندفعه جميعنا في المستقبل.

عن «هآرتس»

 

 

 

 

كلمات مفتاحية::
Loading...