تمر القضية الفلسطينية بمرحلة خطيرة تتزامن مع تصعيد في العدوان الإسرائيلي بأشكال جرائمه المختلفة التي ينفذها في كل زاوية من زوايا الوطن دون استثناء أحد، وتهديدات عسكرية أمريكية وإسرائيلية جديدة، تهدد بمزيد من التصعيد في غزة بل وفي المنطقة.
فمع اقتراب الموعد الذي حدده ترمب لإجبار المقاومة الفلسطينية على تسليم الأسرى الإسرائيليين تحت الضغط المتعدد ، تزداد تهديدات نتنياهو بالعودة إلى عمليات الإبادة العسكرية في غزة ، في حال عدم استجابة المقاومة لمطالبات تسليم الأسرى الإسرائيليين بحلول السبت المقبل دون التزامه هو بما نصت علية الاتفاقيات ، تمثل خطوة خطيرة نحو التصعيد ، الذي لا يعكس فقط إصرار الاحتلال على إجبار المقاومة على الرضوخ والاستسلام ، بل يهدف إلى فرض واقع جديد في غزة يُعيد إحياء خطة التهجير القسري التي بدأت تتبلور في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين وتهديدات ترمب نفسه . ما نراه اليوم من تهديدات هو استكمال لمخطط "الشرق الأوسط الجديد" الذي يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وتمرير مخططات تهجير الفلسطينيين وإعادة الرسم الجيوسياسي للمنطقة تحت مظلة الاتفاقات الإسرائيلية-الأمريكية والضغوطات التي تمارس على الكُل العربي، الذي أخفق خلال العقود الماضية في اعتماد سياسات مستقلة تبتعد عن الهيمنة الأمريكية.
وفي هذا السياق، لا يمكننا تجاهل ما قد يعنيه هذا التهديد في الساعات القادمة. فبمجرد انتهاء المهلة التي منحها ترمب، يتوقع أن تشتد الضغوط العسكرية والاقتصادية بمعنى الحصار على غزة، وهو ما يثير القلق ليس فقط في قطاع غزة، بل في المنطقة كلها. فالمشروع الأمريكي الإسرائيلي يبدو واضحا في سعيه إلى إخضاع الفلسطينيين لشروط مجحفة والتطويع الأشد للعرب، مع التهديد بحرب جديدة تكون أكثر تدميرا من أي وقت مضى.
لكن في المقابل، تحاول بعض الدول العربية وعلى رأسها السعودية والأردن ومصر، توجيه المواقف السياسية تجاه هذا المخطط، على الرغم من الضغوط الأمريكية الهائلة التي تتعرض لها. زيارة الملك عبد الله الثاني بالأيام الماضية إلى واشنطن أظهرت حجم التوتر الإقليمي، حيث لم تقتصر الزيارة على تأكيد الموقف الأردني الثابت في دعم حقوق الفلسطينيين، بل حاولت أن تجد قنوات للتواصل مع الإدارة الأمريكية بشأن خطر المشاريع الإسرائيلية التي تمس القُدس والضفة الغربية والحديث عن خطة عربية لإعادة إعمار غزة تُقدم إلى ترمب الذي يتصرف وكأنه مالك العالم وما عليه في محاولات استمرار فرض الهيمنة الأمريكية من خلال قرارته بشن الحروب المتنوعة على دول العالم.
يبدو أن المهمة الأمريكية العاجلة الآن هو تفتيت المثلث العربي للانفراد بكل طرف على حدى وأقصد السعودية ومصر والأردن. وفي هذا الخصوص واضح أن هنالك تخوفات قطرية وتركية للتدخل من أجل تخفيف حدة هذه الضغوطات لأسباب تتعلق بدرجة التخوف من ترمب وقراراته لعدة اعتبارات، منها الموضوع السوري ورغبة تركيا في احتكارها لهذا الملف. لكن يجب أن يكون هناك حراك عربي أقوى في قادم الساعات. وفي هذه اللحظات الصعبة يجب على منظمة التحرير التحرك في كافة الاتجاهات والمحاور برؤية واضحة وإيجاد صيغة ومحاولة جادة ولو للمرة المائة لاستيعاب الكل الوطني الفلسطيني فيها باعتبارها الممثل الشرعي وصاحبة الولاية السياسية.
باعتقادي فإن الأردن لا يستطيع الوقوف أمام الضغوط وحيداً إن لم يكن هنالك موقف عربي وإسلامي موحد ، ولذلك يتوجب سرعة التوافق على موقف عربي بالحد الأدنى يشكل نوعا من الحماية المشتركة ويقدم رؤية واضحة تتعلق بالحقوق الوطنية الفلسطينية السياسية بما فيها حق تقرير المصير وإقامة الدولة وفق حدود ما قبل 4 حزيران 67 ، وبمستقبل إعادة الإعمار في غزة أمام تهديدات ترمب المتعددة وذلك لضمان مصالح الأمن القومي لبلدانهم وحماية شعبنا الفلسطيني ، وإلا لن تقف الأمور عند هذا الحد وستجد كل من هذه الدول نفسها في عين العاصفة وقد يكون الوقت حينها ربما متأخراً.
السعودية من جهتها تتبنى موقفا ديبلوماسيا حذرا، حيث ترغب في الحفاظ على توازن حساس بين التقارب مع واشنطن وعدم القطع مع إسرائيل وبين دعم القضية الفلسطينية. الملك السعودي وولي عهده يدركان أن أي تطور في موقف مختلف قد يهدد مصالح المملكة الأمنية والإستراتيجية في المنطقة إذا ابتعدت عن التمسك بضرورة نفاذ الحقوق الوطنية لشعبنا وإنهاء العدوان، خاصة مع تزايد الضغط الدولي على الرياض للقبول بمشاريع التطبيع، وتزامن ذلك مع تصريحات سابقة لترمب حول "حلول اقتصادية" للمناطق الفلسطينية، فإن ذلك يضعها في موقف صعب يهدد موقعها الذي تسعى له في قيادة العالم العربي بعد فرض التغيرات على سوريا ولبنان، رغم إدراكها لفرص مصالحها مع قوى الشرق من الصين وروسيا.
أما مصر، التي تلعب دوراً محورياً في ملف غزة، فتجد نفسها في موقف بالغ الحساسية أيضاً. فالقاهرة تدرك جيداً أن أي محاولة لتنفيذ تهجير قسري للفلسطينيين إلى سيناء ستشكل تهديداً حقيقياً لأمنها القومي ومشابها لتداعياته أيضاً على الأردن. فالحكومة المصرية تتبع سياسة ديبلوماسية متوازنة في التعامل مع الضغوط الأمريكية، بينما تسعى جاهدة للحفاظ على حقوق شعبنا الفلسطيني.
زيارة الرئيس السيسي إلى واشنطن، والتي تم تأجيلها أمس لموعد غير محدد، كانت تشير إلى محاولات القاهرة للتوسط في القضايا الشائكة والتهرب من الضغوطات الأمريكية بل وربما مواجهتها والتي تهدف لتحقيق مصالح إسرائيل قد تجعل من الصعب إيجاد حلول تحقق التوازن بين المصالح الإقليمية المختلفة ومصالح أمنها القومي.
التهديدات الأخيرة التي أطلقها ترمب حول "إنزال الجحيم" على غزة إذا لم يتم تسليم الأسرى الإسرائيليين لا تقتصر على شدة الضغط العسكري، بل تشير إلى محاولة إسرائيل والولايات المتحدة فرض حلول سياسية على المنطقة دون مراعاة للحقوق الفلسطينية وسيادة أراضي الدول الأخرى المجاورة. التهديد بالعدوان العسكري في وقت حساس يتزامن مع تأكيدات نتنياهو بتعطيل المرحلة الثانية من المفاوضات المتعلقة بتبادل الأسرى، حيث تسعى إسرائيل بدعم أمريكي لإعاقة أي تقدم في ملف الأسرى، في وقت تتحقق فيه ضغوط داخلية ودولية على دولة الاحتلال للالتزام بتنفيذ بنود اتفاقية وقف إطلاق النار ، وبالقوانين الإنسانية التي باتت لا تكترث بها إسرائيل بحكم صفتها كدولة مارقة حتى كمتهمة أمام القضاء الدولي الذي تشن علية الولايات المتحدة الحروب وتفرض العقوبات في وقت تنسحب فيه من المنظمات والاتفاقيات الدولية ، لتعيد نفسها خارج سياق المجتمع الدولي لتبرر لنفسها سياسات الأمريكي القبيح .
في هذا الوضع المعقد، تبرز غزة مرة أخرى كساحة للمواجهة، ليس فقط مع الاحتلال الإسرائيلي بل مع القوة المستبدة الأمريكية أيضاً. غزة، التي استطاعت الصمود في وجه الحرب والحصار رغم التدمير الهائل والتضحيات الكبيرة عبر تاريخها، تواجه اليوم تهديداً جديداً يتمثل في التهجير القسري على يد الاحتلال بدعم من ترمب. هذا التهديد يأتي في وقت حساس، حيث تتصاعد سياسات الاحتلال الاستيطانية الإحلالية التوسعية في الضفة الغربية، خاصة مع عملية التهجير القسري التي تجري في شمال الضفة وتدمير المخيمات ومصادرة الأراضي التي باتت قراراتها بحجة "الرعي" بما يعكس رؤيتهم التوراتية الاستعمارية بامتلاك الأرض، مما يزيد من تعقيد الأمور ويضع جميع الأطراف في مواجهة حتمية.
السيناريوهات المستقبلية في غزة والضفة الغربية تظل محكومة بتوازنات دقيقة. وإذا استمرت الضغوط الإسرائيلية والأمريكية دون المواجهة أو على الأقل محاولات المواجهة، قد نشهد تصعيداً عسكرياً جديداً، أو ما قد يكون أكثر خطورة يتمثل بتهجير قسري يتم فرضه بالقوة العسكرية أو الاقتصادية. لكن الثابت في هذا الصراع هو أن الفلسطينيين لم ولن يرضخوا لأي حلول تمس حقوقهم الوطنية، كما أثبتت التجارب التاريخية.
إن إصرار الشعب الفلسطيني على مقاومة هذا المشروع التصفوي، بكافة أشكاله، هو السبيل الوحيد لفرض شروطهم على الأرض.
في النهاية، مهما كانت التهديدات والتحديات، يظل موقف شعبنا الفلسطيني هو الأكثر قوة. هنالك ضرورة تاريخية ومسؤولية بوضوح الإرادة السياسية بقرار فلسطيني وطني مستقل موحد حول آليات المقاومة الشعبية والسياسية بكل أشكالها الديبلوماسية والقانونية بما يضمن رفض أشكال الابتزاز السياسي الأمريكي وحتى الأوروبي دون مقابل في شأن قضايا مختلفة. الإرادة السياسية الوطنية ستظل حجر الزاوية في مواجهة هذا المشروع الأمريكي الإسرائيلي الذي يهدد حاضر ومستقبل القضية الفلسطينية من خلال الإصرار على تنفيذ المشروع الصهيوني الإحلالي في أرض فلسطين.