الرقص العبثي .. داخل فوالق سياسية

 

 

 

إلى أين تمضي بنا الفوالق السياسية وقد بات الصراع على التشكيلات الجيوسياسية في العالم أسرع وأعنف من قبل، تسارع التحولات الجيواستراتيجية يعكس ويعزز تحولاً عميقاً وخطيراً جداً، على ما يبدو الوضع قاتم ومأساوي، ما دام شعار ترمب قاتلوا، قاتلوا، ما دامت أمريكا هي من يتصدر المشهد وتدير موتى الأخرين.

يقول شارل ديغول "المهم أن نكون حاضرين"، هناك رؤساء يريدون تخليد أسمائهم في التاريخ عندما تكون الظروف مواتية، ولكن هناك استحقاقات لا بل تحديات كبيرة يواجهها العالم، ترمب لايأبه!!، الدولة العميقة في أمريكا كانت تلعب سياستها مع الحزبين، ولكن ترمب يحاول تحييدها في وضع السياسة الخارجية، "أمريكا أولاً"، ثم مصالح الأخرين، الترامبية الآن لديها نظرية الخلود التي يسندها فكر المحافظين الجدد المتضمن هدم العالم القديم وتفتيته وبناء عالم جديد تكون فيه أمريكا أولاً، فترمب سيحيي صفقة القرن ويفرضها وينهي الوجود الإقليمي لإيران وثم الصين، وينهي حلف الناتو ليبني أحلاف جديدة اقليمية ومركزية، ويسيطر على منابع الطاقة في العالم وبناء نظام اقتصادي يتناسب مع حاجات أمريكا.

ترمب بعيد ومناقض لأيديولوجيا حزبه ولكنه الآن مهيمن بسبب تمدد الشعبوية المتطرفة، استطاع بالرقص العبثي إعادة صياغة الحزب الجمهوري ولكنه لن يكون قادر على تجاوز القواعد الدنيا للحزب، ربما يكون انتصاراً انتخابياً فرضته ظروف العولمة وو...، حزب يتبع سياسات منذ نصف قرن تتلخص بحضور قوي لأمريكا في السياسة الخارجية، واستعداد لاستخدام القوة العسكرية للدفاع عن المصالح بعكس ما يريده ترمب "انعزالية"، وما يظهر من تأييد الجمهوريين ربما هو تأييد مرحلي، هناك أقلية مؤثرة في الحزب ترفض التوجه الذي يتبناه ترمب، وربما تشهد الفترة المقبلة نزاعات بين ايديولوجية ترمب وفكره، مع سياسة الحزب الجمهوري وأسسه، رونالد ريغان ملهم الجمهوريين وصف الاتحاد السوفيتي "بإمبراطورية الشر"، يخالفه ترمب الذي يرى أن بإمكان بوتين أن يفعل ما يشاء، وموقفه من حلف الناتو مناقض للقيم التقليدية الجمهورية.

غالباً نتائج الحروب تكون نقطة فاصلة بين مرحلتين وبين تيارين، تلقي بظلالها على النظام العالمي الجديد واقتصاده، ما من حرب طالت أم قصرت إلا وتنتهي على طاولة المفاوضات ولكن في الحلبة الأمريكية لا أطراف متصارعة هو لاعب واحد ترمب الذي يستطيع وقف الحروب بمكالمة هاتفية واحدة، يسدد الضربات ويطلق الصافرة ويتوج المنتصر!!! وها نحن في الربع ساعة الأخيرة لنهاية الحرب الأوكرانية، "لن يكون لأوروبا ولا لأوكرانيا مكان على طاولة التفاوض وسيتعين عليهم قبول النتائج"، فالتناقضات الكبيرة بين القوى الكبرى لا يمكن تجاوزها بسهولة في ظل تضارب الأجندات، ومن الواضح في المرحلة الحالية التقاطع في المصالح بين اللاعبين الأساسيين أكثر مما كان في السابق وتفوق خلافاتهما بكثير، بمقامرة الجبابرة يكلل النصر لبوتين بانسحاب أمريكا من الصراع، زيلنسكي ستبدأ حرباً جديدة مع أمريكا لتسديد ديونك المقدرة بالمليارات، فما أخذت روسيا لها وما بقي لك فهو لأمريكا، ترمب أطلق رصاصة الرحمة السياسة عليه، وتلك الرصاصة أصابت زيلنسكي أم أصابت أوروبا والناتو في الرأس؟!

هاريس في مناظرتها بالسباق الانتخابي مخاطبة ترمب "حلفاؤنا في الناتو ممتنون للغاية لأنك لم تعد رئيساً، وإلا كان بوتين يجلس في كييف، وعيناه على بقية أوروبا"، تحقق الكابوس، بوتين لا يزال قادراً على الصمود، يتقدم في دونباس ويمكنه استعادة كورسك، وبالتالي لديه أوراق أفضل للتفاوض، وهو الذي دعا للتفاوض بإبقاء الأمور بما وصلت إليه، بمعنى ضم أراضي دونباس، إذن الأمر على حساب أوكرانيا، الصراع بين الغرب وروسيا عميق، والحرب عملياً بدأت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكيك حلف وارسو والحرب الدائرة في أوكرانيا ماهي إلا إعادة المواجهة بين روسيا والغرب إلى الواجهة مجدداً، وستظل العلاقات المستقبلية بين الطرفين الروسي والغربي خاضعة لظاهرة العداء المتأصل الذي يسود تصور العالم الغربي لروسيا، قرار الحرب متخذ من 2014، بعد ضم جزيرة القرم، لتكون الجمهورية (22) في الاتحاد الروسي، فيما تكمن أهميتها الاستراتيجية راهناً، وبعيد تفكك الاتحاد السوفييتي، بأنها المنقذ الأساسي لروسيا على البحر الأسود، وخصوصاً بعد تفكك "المنظومة الاشتراكية" في دول شرق أوروبا، وتحول البحر الأسود إلى قواعد أمريكية أو أطلسية، وزادت وتيرة الحرب إصرار أوكرانيا عدم الحياد والانضمام للناتو، والإصرار التام لمواجهة كل من يؤيد عودتها إلى الاتحاد السوفييتي السابق.

شرارة الصراع بين الجانبين المتأهبين تكون ضحيتها أوروبا الشرقية التي تعتبرها واشنطن وأوروبا الغربية خارج العالم المتحضر ومواطنين ليسوا من الدرجة الأولى، وهذا ثمن الرقص العبثي لزيلنسكي بمصير شعبه، ستبقى هناك بعض الحروب المسموح بها سواء مباشرة أو بالوكالة ليتم إخراج مولود جديد يتقاسم العالم الذي سيتغير باتجاه استراتيجيات جغرافية جديدة فلهذا نسمع طبول الحرب هنا وهناك لإعادة التموضع في الأسس الجديدة للنظام.

أوروبا التي بدت تئن تحت ثقل المساعدات إلى أوكرانيا سواء العسكرية أو غيرها، تجد نفسها محصورة في زاوية، مكشوفة ليس لديها الكثير لفعله في هذا الموضوع، لذلك  تحاول أن تبحث في خياراتها الاستراتيجية للتغلب على التحديات بالتوازي مع ازدياد التضخم الاقتصادي، البطالة والفقر والهجرة، التطرف وتفاقم النزعة القومية، وهو ما يشكل ضغطاً على قادة الدول الأوروبية ويُلزمهم بمراجعة التشاركية الثقيلة بسبب اختلاف الظروف والامكانيات المادية وعجزهم في تحقيق التكامل الأوروبي كما كانوا يحلمون، وقف اندفاعات الاتحاد أكثر نحو الفلك الأمريكي. الناتو يمر بمنعطف خطير، أمن الاتحاد الأوروبي دخل مرحلة حرجة من المواجهة الجيوسياسية والاقتصادية ووصلنا إلى احتقان شديد عند كل الأطراف قد يؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي وحرب بلا ضوابط قد تتخذ منعطفاً خطيراً خاصة بعد تجاوز الخطوط الحمراء التي سيفتح صندوق باندورا الذي خرجت منه كل شرور البشرية حسب الرواية الإغريقية.

 

 

 

Loading...