صحافة وتقارير

قطر وتداعيات حرب ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر: بين إدارة الصراع وحلّه

بمجرد قيام حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بعمليتها العسكرية "طوفان الأقصى" في محيط قطاع غزة، والتي أدت إلى قتل مئات الإسرائيليين، وأسْر ما يزيد على 200 أسير وأسيرة، طُرح سؤال الموقف والدور القطريَين، وذلك نتيجة عوامل؛ منها العلاقة المميزة بين قطر وحركة "حماس" التي تسيطر على قطاع غزة، إذ تستضيف الأولى جزءاً من القيادة السياسية للحركة، وهي المانح الأكبر للمساعدات في القطاع. وكان من أسباب هذا الطرح محاولة الإعلام الغربي والإسرائيلي البحث عن جهة للومها، باعتبارها ساعدت في وقوع مفاجأة 7 تشرين الأول/أكتوبر.

وبقي البحث عن التدقيق أو توجيه اللوم إلى قطر محصوراً، إلى حد كبير، في دوائر إعلامية وسياسيين عبّروا عن مواقف شخصية، من دون أن يبلغ الأمر موقفاً رسمياً من أي دولة. وفي المقابل، تبنّت الدوحة منذ اللحظة الأولى موقفاً "غير اعتذاري"، وعبّرت عن مواقف واضحة، وسَعَت لاستثمار علاقاتها السابقة بأطراف الصراع لتستمر في دورها كوسيط، بل أيضاً لتوسِعه.

وتضمنت الأسئلة التي تتعلق بدولة قطر، عقب العملية المذكورة والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مستقبل العلاقة بين قطر وحركة "حماس"، والموقف الدولي من هذه العلاقة، وكذلك الموقف القطري من عملية "حماس" والحرب الإسرائيلية، ومرحلة ما بعد الحرب.

وبعد نحو شهر من اندلاع الحرب، كانت قطر قد أكدت مكانها كوسيط مقبول من جميع الأطراف، وجزء أساسي من التفاعلات الدولية بشأن ما يجري في غزة، مع وجود نقاط خلاف واضحة بين الدوحة والإدارة الأميركية، ووجود رفض وإدانة دائمَين للسياسة الإسرائيلية. وبطبيعة الحال، يصعب التأكد من مستقبل الدور القطري في مرحلة ما بعد الحرب، أو حتى في المرحلة المقبلة من هذه الحرب، نتيجة لارتباط ذلك بعوامل كثيرة؛ أهمها مسارات الحرب ونتائجها، ومواقف الأطراف الأُخرى. لكن يمكن مقاربة هذا الدور إذا تم فهم السياسة القطرية، قبل وفي أثناء الحرب، ووضْع ذلك كلّه في إطار مفاهيم "إدارة" و"حل" الصراع، ويصبح ممكناً أيضاً وضْع تصوُر "كيف يمكن لكل طرف، وخصوصاً الفلسطيني والإسرائيلي، السعي لتركيبة يصبح الدور القطري فيها أكثر مساهمة في تحقيق الأهداف المتناقضة لكل طرف؟".

ولفهم الدور القطري، هناك مقاربتان أساسيتان؛ الأولى، عقيدة السياسة الخارجية القطرية عموماً، وتحديداً تبنّي دور الوسيط في الصراعات الدولية، ولا سيما عبر الاتصالات مع الفواعل غير الدول، وخصوصاً المنظمات والتيارات الإسلامية. أمّا الثانية، فتتعلق، لفهم الدور القطري، بمحددات وسياسات قطرية تخص المسألة الفلسطينية تحديداً، وتفاعُل هذه السياسات مع مواقف أطراف الصراع، وخصوصاً الموقف الإسرائيلي الذي ربما يميل إلى العودة إلى احتواء الصراع وتهدئته، أو حسمه بالقضاء على الفلسطينيين، في مقابل الطرف الفلسطيني الذي يسعى لتسوية سياسية تحقق له إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، على كامل الأرض المحتلة سنة 1967.

قطر وسيطاً دولياً

تعتبر ممارسة الوساطة جزءاً من عقيدة السياسة الخارجية القطرية، إذ سعت قطر لتعزيز حضورها الدولي عبر آليات؛ منها ممارسة أدوار الوساطة، وتعزيز دور إعلامها عربياً ودولياً. وتشمل الوساطات التي قامت بها قطر في السنوات الأخيرة الوساطة بين الولايات المتحدة الأميركية وحركة طالبان الأفغانية سنة 2020، وبين رواندا وجمهورية الكونغو سنة 2023، وبين كينيا والصومال سنة 2021، وبين الأطراف المتقاتلة في السودان سنة 2023، وبين الولايات المتحدة وإيران سنة 2022، وبين الفصائل الفلسطينية في مناسبات عديدة، وبين إسرائيل و"حماس" منذ سنة 2014 على الأقل، وفي لبنان سنة 2008، ودارفور في السودان سنة 2011، وغيرها من الحالات والدول. 

ومما ساعد قطر في أداء هذا الدور دبلوماسيتها النشيطة، وأجهزتها الإعلامية القوية، وعلاقاتها ومصالحها الدولية، مستفيدة كذلك من موقعها الجغرافي، وقدراتها الاقتصادية، وعلاقاتها المتميزة مع قوى دولية متعددة، ضمنها الولايات المتحدة الأميركية.

وفي سبيل امتلاك نفوذ وقبول لدى الأطراف المتعددة، تُقدّم قطر أحياناً مساعدات ودعماً إلى بعض القوى، وهو ما يمكن أن يجعلها للوهلة الأولى تبدو في تناقض مع قوى دولية كبرى، كاحتفاظها بعلاقات مع حركة طالبان الأفغانية عندما كانت في حرب مع الولايات المتحدة، واستضافة جزء من قيادة هذه الحركة وافتتاحهم مكتباً في الدوحة منذ سنة 2013، لكن يتضح بالتدريج أن هذا مقبول ومنسَق دولياً.

دور قطر في غزة ومع "حماس"

يُعتقد أن أمير قطر السابق، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أول زعيم عربي زار قطاع غزة بعد سنة 1967، عندما استقبله الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات هناك سنة 1999، ثم قام بزيارة ثانية سنة 2012، بعد العدوان الإسرائيلي على القطاع في تلك السنة، وكان القطاع قد أصبح تحت سيطرة "حماس"، وأعلن تقديم مساعدات ضخمة لإعادة الإعمار هناك. 

كما بدأت قطر استقبال قيادات من حركة "حماس"، وتأمين مكان لسكنهم بعد إبعادهم من الأردن سنة 1999، وتعزَزَ الوجود القيادي الحمساوي في الدوحة بعد خلاف الحركة مع النظام السوري عقب الثورة السورية سنة 2012، وخروج قيادات من هناك، وكان تعزيز وجود "حماس" في قطر بتشجيع من الولايات المتحدة الأميركية. وقد انضم لاحقاً رئيس الحركة، إسماعيل هنية، إلى القيادة المقيمة بقطر بعد خروجه من قطاع غزة.

وبدأت بالتزامن مع استقرار قادة "حماس" في قطر اتصالات دولية مع الحركة؛ وعلى سبيل المثال، كشف القيادي في حركة "حماس"، موسى أبو مرزوق، في شباط/فبراير 2015، أن توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، بصفته ممثل الرباعية الدولية (المكلفة بمتابعة الملف الفلسطيني، وتضم الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، والأمم المتحدة)، زار القطاع والتقى قيادات في الحركة، ودعاهم إلى تبنّي برنامج سياسي فلسطيني، قاعدته دولة فلسطينية في حدود سنة 1967 كحل نهائي للصراع مع إسرائيل، وتأكيد أن "حماس" هي حركة فلسطينية لتحقيق أهداف فلسطينية، وليست جزءاً من حركة إسلامية ذات أبعاد إقليمية. وانتقل بلير من غزة، وقابل رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" آنذاك، خالد مشعل، في الدوحة في عدة لقاءات، محورها الأفكار السابقة التي أشار إليها أبو مرزوق. وأعلنت "حماس"، في 1 أيار/مايو 2017، من الدوحة وثيقة جديدة كبرنامج سياسي فيها اقتراب من هذا الطرح، وخصوصاً إعلان نفسها حركة وطنية فلسطينية، وقبولها برنامج الدولتين. 

وقد وضح رئيس الوزراء القطري، ووزير الخارجية، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في حديث للصحافة، عقب لقائه وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بشأن فتح مكتب لحركة "حماس" في الدوحة، قائلاً: "هذا المكتب يستخدم منذ البداية كقناة للتواصل ووسيلة لإحلال السلام في المنطقة وهذا هو الغرض منه."

قدّمت قطر دعماً مالياً شهرياً منتظماً وعلنياً إلى قطاع غزة؛ إذ قدّمت لسنوات مبلغ 30 مليون دولار شهرياً إلى الفقراء، ورواتب موظفين مدنيين هناك عينتهم حركة "حماس"، وكتمويل لجزء من الوقود اللازم لتشغيل محطات كهرباء القطاع، فضلاً عن تمويل إعادة الإعمار في القطاع عقب عدة جولات من التدمير قامت بها إسرائيل، وهو ما يجعل الدعم القطري للقطاع، تحت سيطرة "حماس"، يصل إلى مليارات الدولارات.

كما قُدّمت هذه المساعدات بتنسيق مع الحكومة الإسرائيلية، وبصورة خاصة، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولا سيما عملية نقل عشرات ملايين الدولارات شهرياً من قطر بواسطة حقائب يحملها مسؤول قطري بحراسة الأمن الإسرائيلي، تعبر الحدود الفلسطينية البرية (ونقاط الحدود والمطارات الإسرائيلية) إلى غزة. وبينما تعمل قطر على تقديم الأموال لأسباب إنسانية ومدنية كما يعلن مسؤولوها، فإن نتنياهو، كما يوضح تقرير مفصل لصحيفة "نيويورك تايمز"، كان يعتقد أنه بهذا يضمن الهدوء في قطاع غزة، عبر تسوية ضمنية مع "حماس"، وأنه بذلك يضمن منع حل الدولتين ببقاء الفلسطينيين مقسَمين بين سلطتين ضعيفتين؛ واحدة في غزة، والثانية في الضفة. وتوضح الصحيفة أن الأمر لا يتعلق بالمساعدات القطرية فقط، بل أيضاً بمصادر وتعاملات مالية أُخرى لـ"حماس"، إلى درجة منع ضباط أمن إسرائيليين من الشهادة في قضية محكمة ضد بنك صيني رفعها ذوو قتلى وقعوا في عمليات عسكرية للحركة، ويتهمون البنك بتسهيل نقل الأموال إليها.

وقد تم النظر إلى الدعم القطري لقطاع غزة من زوايا متعددة، فهذا الدعم، الذي بات مقبولاً ضمنياً أيضاً من جانب السلطة الفلسطينية، يُنظر إليه من زاوية أولى على أنه أساسي في منع تصفية القضية الفلسطينية، وذلك بدعم الصمود الفلسطيني، وبقاء الفلسطينيين على أرضهم، وقطع الطريق على المخططات الإسرائيلية لتهجيرهم.

لكن هناك رؤية ثانية، أو ربما تفسير واستخدام إسرائيلي أميركي، وهو أن المساعدات تمنع أيضاً انفجار الأوضاع، وتحد من المواجهة والمقاومة العنيفتين، وتساعد في احتواء حركة "حماس"، بينما تستمر إسرائيل في سياساتها التوسعية في الضفة الغربية وباقي فلسطين.

الموقف/الدور القطري بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر

أعلنت قطر منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر موقفاً يدعو إلى التهدئة، لكنه يُحمِّل إسرائيل مسؤولية الأحداث؛ ففي بيان لوزارة الخارجية القطرية، صادر في اليوم نفسه، جاء: "تعرب دولة قطر عن قلقها البالغ إزاء تطورات الأوضاع في قطاع غزة، وتدعو جميع الأطراف إلى وقف التصعيد والتهدئة وممارسة أقصى درجات ضبط النفس." وأضاف البيان: "وتحمل وزارة الخارجية إسرائيل وحدها مسؤولية التصعيد الجاري الآن بسبب انتهاكاتها المستمرة لحقوق الشعب الفلسطيني، وآخرها الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى المبارك تحت حماية الشرطة الإسرائيلية." 

وتوالت البيانات القطرية المشابهة لتعكس نوعاً من الثقة وعدم القلق بشأن إمكانات تحميل قطر مسؤولية ما بشأن ما قامت به "حماس"، لكن الدوحة لم تتجاهل إمكانات حدوث ذلك. ومن هنا، قال رئيس الوزراء القطري، في 13 تشرين الأول/أكتوبر، إن "التزام دولة قطر بدورها كشريك في صناعة السلام ووسيط في فض النزاعات لا يجب أن يتم استغلاله للإساءة لسمعتها عبر كيل الاتهامات والتي أثبتت التجارب زيفها وسوء نية المتاجرين بها."

ورداًّ على تقرير موقع تلفزيون "فرانس 24"، وعنوانه "قطر، وإيران، وتركيا، وغيرها: شبكة حلفاء 'حماس'"، الذي جاء فيه أن علاقات هذه القوى بالحركة أصبح "موضوع تدقيق"، صدر توضيح إعلامي قطري رسمي، جاء فيه: "قطر ليست داعماً مالياً لحماس. إنها تقدم المساعدات إلى غزة، ووجهة المال واضحة تماماً"، وأوضح الرد القطري أن "المساعدات القطرية منسّقة تماماً مع إسرائيل، ومع الأمم المتّحدة، والولايات المتحدة. المساعدات القطرية تقدّم 100 دولار أميركي للعائلات الأفقر في قطاع غزة لتدفعها للغذاء والأدوية الأساسية، ولزيادة توصيل الكهرباء(...). إنّ هدفها المساعدة على حفظ الاستقرار والهدوء لحياة العائلات الفلسطينية في غزة."

كان الدور الأبرز لقطر في سياق الحرب قيامها بدور الوسيط بين كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية من جهة، و"حماس" من جهة ثانية، وكل ذلك بقبول صريح أو ضمني من مختلف الأطراف، فتقاسمت الدوحة مع القاهرة مهامّ تفاوضية ووساطة أساسية، وبدا كما لو كانت الدوحة قد استوعبت المفاجأة سريعاً، ووضعت سياسة تحرُّك عاجلة.

بدأت الدوحة، بعد ساعات فقط من حدوث عملية "طوفان الأقصى"، التوسط في ملف تبادل الأسرى، وخصوصاً إطلاق سراح أسيرات إسرائيليات مدنيات، وأسرى يحملون جنسيات أجنبية، منها الأميركية، وقالت مصادر في حركة "حماس" للإعلام، في 8 تشرين الأول/أكتوبر، إن هذه الوساطة جاءت بدعم أميركي.

وكان الموقف القطري ينطلق من فهم أن التوتر العالي يضاعف الحاجة إلى مفاوضات ووساطة، وبدت اللحظة مناسبة للتقدُّم إلى الأمام، وليس التراجع.

وقبل مضي أسبوع على العملية، كان وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، يزور الدوحة، وفي مؤتمر صحافي معه، حدد رئيس الوزراء القطري، ووزير الخارجية، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، دور بلاده بالقول: "نؤمن في دولة قطر إيماناً راسخاً بالوساطة والحوار وهي جزء من سياستنا الخارجية ولطالما سعينا إلى إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع مختلف الأطراف في مختلف ساحات الصراع وهو ما ساهم في ترسيخ مكانتنا الدولية كشريك موثوق في صناعة السلام."

وفي مؤتمر صحافي جمع رئيس الوزراء القطري، ووزير الخارجية، بوزير الخارجية الأميركية، في 13 تشرين الأول/أكتوبر، حددت قطر 3 أهداف أساسية عاجلة، وهي: عدم توسُع الأزمة إلى جبهات أُخرى، وإيصال المساعدات إلى قطاع غزة، وعودة الأسرى. وعبّر المسؤول القطري عن ذلك بقوله: "دور دولة قطر يركز على إيجاد حلول لهذه الأزمة ووقف تمددها وعدم اتساع رقعة الصراع أو الانخراط في جبهات أخرى كما أن أولوياتها اليوم تركز على وقف القتال على الأرض وإيصال المساعدات الإنسانية وعودة الأسرى إلى ديارهم." هذه الأهداف، وخصوصاً منع توسعة الحرب وإطلاق الأسرى، كانت أيضاً ضمن الأولويات الأميركية، فقال بلينكن: "تتشارك الولايات المتحدة وقطر في هدف منع هذا الصراع من الانتشار. ناقشنا بالتفصيل جهودنا لمنع أي لاعب، دولة أو غير دولة، من خلق جبهة جديدة"، وأضاف: "كما نعمل بشكل مكثّف معاً لضمان إطلاق الرهائن، بما في ذلك المواطنين الأميركيين، الموجودين لدى 'حماس' في غزة."

كان الموقف الأميركي يدعم بشدة تدمير حركة "حماس"، وإنهاء وجودها في قطاع غزة، وينساق تماماً وراء الموقف الإسرائيلي، لكن جولات المسؤولين الأميركيين العربية ولقاء الدبلوماسيين العرب قلل نسبياً من حدة الموقف الأميركي لمصلحة الحديث عن وقفات إنسانية للحرب، وإدخال المساعدات.

وبالإضافة إلى الأهداف الثلاثة السابقة (منع انتشار الحرب، تبادُل الأسرى، وإيصال المساعدات)، وهي الأهداف العاجلة والعملية، أكدت الدوحة الهدف السياسي البعيد المدى، فتضمّن بيان رسمي: "تؤكد وزارة الخارجية (القطرية) أن الضمانة الوحيدة لتحقيق سلام مستدام في المنطقة هي الوصول إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، بما يضمن إعادة الحقوق للشعب الفلسطيني، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية"، وفي هذا السياق، رفضت قطر مخططات التهجير من قطاع غزة. وكانت نقاط الخلاف الأميركية القطرية هي تحميل "حماس" وحدها مسؤولية ما حدث، ورفض فكرة إنهاء "حماس"، ورفض العملية الواسعة في غزة، ورفض التهجير.

الوساطة المباشرة وإطلاق الرهائن

إن خطاب قطر "غير الاعتذاري" بشأن دورها وعلاقتها بـ"حماس" رافقه مبادرة منها إلى إجراء اتصالات واسعة بأطراف متعددة، فحدث اتصال بين أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، في اليوم الثاني للعملية، وتضمنت الاتصالات الدول العربية المتعددة، حتى التي كانت حتى وقت قريب في حالة قطيعة معها، كالإمارات.

حظي الدور القطري بقبول عربي ودولي واسع، فعلى سبيل المثال، في القمة العربية الإسلامية التي عُقدت في الرياض، في 12 تشرين ثاني/نوفمبر 2023، تقرَرَ تكليف وزراء خارجية كل من السعودية، بصفتها رئيسة الدورة الحالية من القمتين العربية والإسلامية، والأردن ومصر وقطر وتركيا وإندونيسيا ونيجيريا وفلسطين. وإذا كان يمكن فهم دور الأردن ومصر بسبب الموقع الجغرافي الملاصق لفلسطين، فضلاً عن دور مصر والسعودية وحجمهما التاريخي، وفهم اختيار الدول الإسلامية الكبرى الرئيسية، فإن إضافة قطر إلى الوفد يتعلق بالتسليم بدورها السياسي، وعلاقاتها، وعملية الوساطة التي كانت قد قطعت شوطاً كبيراً فيها فعلاً.

وقد نجحت الوساطة القطرية، بالتعاون مع مصر، في البداية في إطلاق سراح أسرى إسرائيليين لدى حركة "حماس"، عندما أُطلقت بعد 14 يوماً من العملية (في 20 تشرين الأول/أكتوبر) أسيرتان أميركيتان إسرائيليتان، تلتهما، في 23 تشرين الأول/أكتوبر، أسيرتان إسرائيليتان. وتم في 24 تشرين الثاني/نوفمبر التوصل إلى وقف موقت للقتال، في مقابل إطلاق 81 أسيراً إسرائيلياً (نساء وأطفال في غزة)، في مقابل أسرى (نساء وأطفال) فلسطينيين من السجون الإسرائيلية، (على قاعدة 3 أسرى فلسطينيين في مقابل كل أسير إسرائيلي)، كما أطلقت "حماس" 24 أسيراً من أصحاب الجنسيات الأجنبية، قبل أن يتجدد الهجوم الإسرائيلي في 1 كانون أول/ديسمبر.

هذه الوساطة أدت إلى حسم الموقف الإسرائيلي، وبالتالي الغربي، بشأن الدور القطري، على الرغم من الخطاب القطري الذي يحمّل إسرائيل مسؤولية الأحداث، فعلى سبيل المثال، قال مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي، في تغريدة على منصة X نقلها الإعلام: "أنا سعيد للقول إنّ قطر أصبحت طرفا أساسياً وشريكاً في تسهيل الحلول الإنسانية. إنّ جهود قطر الدبلوماسية حاسمة في هذا الوقت."  وقد شكر كل من الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك قطر والأمير تميم بن حمد على دورهم في تأمين إطلاق سراح الرهائن.

واستخدمت "سي أن إن" مصطلح "لا غنى عنها" (indispensable)، فنشرت تقريراً بعنوان "كيف أصبحت الدولة العربية الصغيرة قطر لا غنى عنها في المباحثات مع 'حماس'"، أمّا "وول ستريت جورنال"، فنشرت تقريراً عنوانه "دبلوماسية غزة عززت دور قطر وسيطاً عالمياً".

وقد تضمنت الوساطة القطرية لقاءات مباشرة مع المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين، فاستضافت الدوحة مسؤولَي الموساد الإسرائيلي، وزار مسؤولون قطريون الإسرائيليين، ونزلوا في مطار اللد (الذي يسميه الإسرائيليون بن غوريون). والتقى رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية، وليام بيرنز، ورئيس الموساد الإسرائيلي، ديفيد برنيع، في الدوحة بدءاً من نهاية تشرين الثاني/نوفمبر، رئيس الوزراء القطري عدّة مرات لبحث مسائل الوساطة في الحرب، ولا سيما الأسرى والوقف الموقت للحرب، واستمرت اللقاءات لاحقاً في أوروبا ومناطق أُخرى. وفي نهاية تشرين الثاني/نوفمبر أيضاً، نشرت وكالة "أسوشيتدبرس" أن مسؤولين قطريين نزلوا في مطار بن غوريون لمتابعة عملية الوساطة.

إن زيارات علنية كهذه متبادلة بين قطر وإسرائيل، على الرغم من أنها تأتي في وضع استثنائي، وأن وجود اتصالات سابقة كانت ستشكل حدثاً إقليمياً ودولياً يرتبط بالتطبيع لو أُجريت من دون حرب، هي في كل الأحوال أمر يتوق إليه الإسرائيليون. وفي المقابل، كانت وزيرة الدولة للتعاون الدولي القطرية، لولوة الخاطر، أول مسؤول حكومي دولي رسمي يدخل القطاع على رأس وفد قطري، في 26 تشرين الثاني/نوفمبر، في مهمة استمرت عدة أيام لتوصيل مساعدات، وتنسيق نقل جرحى من القطاع إلى قطر، وهو ما يشكل إحدى نتائج المفاوضات القطرية الإسرائيلية. والملاحَظ أن الوساطة القطرية لم تُحصر في تنسيق العلاقة بين إسرائيل والمقاومة وحسب، بل أيضاً في الدور القطري في الإغاثة الإنسانية على الأرض.

وقد حققت قطر عدة مكاسب؛ أولها تأكيد موقعها كوسيط مقبول من جميع الأطراف، فالمقاومة لا تعارض الاتصالات القطرية الإسرائيلية، وإسرائيل تشكر قطر على الرغم من خطابها المؤيد للفلسطينيين، وعلى الرغم من استضافة "حماس". كما حققت أيضاً وقفاً لإطلاق النار موقتاً، وتبادلاً للأسرى، ونقلت مساعدات إغاثية إلى غزة في ظل عزوف الدول العربية والعالم عن إدخال المساعدات من دون تنسيق مع إسرائيل. وعلى سبيل المثال، فقد أُعلن، في منتصف كانون ثاني/يناير 2024، اتفاق بين إسرائيل و"حماس"، بوساطة قطرية - فرنسية، ينص، كما قال محمد ماجد الأنصاري، الناطق باسم وزارة الخارجية القطرية، على "إدخال أدوية وشحنة مساعدات إنسانية إلى المدنيين في قطاع غزة، (...)، مقابل إيصال الأدوية التي يحتاج إليها المحتجزون (الإسرائيليون) في القطاع."

ومع أن جهد قطر انصب على الوضع في قطاع غزة، إلاّ إن مسألة منع توسّع الصراع ربما تشكّل مجالاً آخر يكون لقطر دور فيه، فقد عارضت قطر ضمناً مسألة التحالف الدولي لأمن الملاحة في البحر الأحمر الذي حاولت واشنطن تأسيسه، ورفضت بوضوح الضربات العسكرية التي وجهتها بريطانيا والولايات المتحدة (في كانون الثاني/يناير 2024) رداً على عمليات الجماعة الحوثية في اليمن ضد السفن المتجهة إلى إسرائيل، وفي المؤتمر الصحافي المشترك بين رئيس الوزراء القطري ووزير الخارجية الأميركي في الدوحة، في 7 كانون ثاني/يناير 2024، قال المسؤول القطري: "لا نرى أبداً أن العمل العسكري حل"، ودعا إلى "وقف ما يحدث للسفن المدنية بأقرب وقت ممكن من خلال وسائل دبلوماسية." وبشأن الموضوع نفسه، قال الشيخ محمد بن عبد الرحمن في اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، في سويسرا، إن الضربات العسكرية الأميركية والبريطانية لن تكبح هجمات الحوثيين على ممرات الشحن التجارية في البحر الأحمر من دون جهود دبلوماسية. وفي بيان آخر، أوضح ماجد الأنصاري، المتحدث باسم الخارجية القطرية، أن "تصاعد التوترات في البحر الأحمر فرعٌ من التوتر في غزة، ولا يمكن حلها إذا تجاهلنا إنهاء الحرب على القطاع."

خاتمة: السياسة القطرية.. بين "إدارة الصراع" و"حله"

اعتمد التحرك القطري إلى حد كبير على استغلال الحاجة الملحة للأطراف الإسرائيلية والأميركية إلى علاج موضوع الأسرى الإسرائيليين، وبنت عليه عملية تفاوضية، من أهم أهدافها: تقديم المساعدات في قطاع غزة، والسعي لوقف إطلاق النار، ولولا مسألة "الرهائن"، والوساطة في إطلاقهم أو حتى توصيل الأدوية إليهم، لربما كانت قدرة الدوحة على التوسط هذه المرة أقل من السابق.

لخص رئيس الوزراء القطري تصوُر بلاده لمرحلة ما بعد الحرب بالقول: "نحن نرى أن الأولوية لنا، هي أولاً إنهاء هذه الحرب. (...) وبعد نهاية الحرب، إيجاد حل لوضع الضفة الغربية وغزة، ولا يمكن فصلهما عن بعضهما؛ الضفة الغربية وغزة يجب التعامل معهما كوحدة واحدة. بالنسبة لدعم دولة قطر للشعب الفلسطيني، هذه السياسة ستستمر، ولن تتأثر بالظرف السياسي. وما نريد حقاً رؤيته هو حل دائم للشعب الفلسطيني ومنحهم دولتهم في نهاية اليوم. وهذا سيكون الحل الوحيد الذي يحافظ على كل جهودنا واستثماراتنا في المدى الطويل."

عملياً يمكن القول إن هناك 3 مدراس أساسية للتعامل مع الموضوع الفلسطيني الإسرائيلي، وهي متداخلة، أي ربما تُستخدم من جانب الأطراف نفسهم، لكن كلاً في مجال أو مناسبة مختلفة؛ الأولى هي "إدارة الصراع"، أي منع تصاعده واحتواؤه بعيداً عن العنف من دون السعي لتوصل لحل سياسي وتسوية، وكانت هذه السياسة الإسرائيلية المتبَعة قبل حرب 7 تشرين الأول/أكتوبر، والتي بموجبها وافقت حكومات بنيامين نتنياهو على كثير من الخطط والإجراءات، والتي تبقي الانقسام الفلسطيني، وتمنع أي طرح فعلي لحل الدولتين، ومن ذلك السماح لحركة "حماس" بالبقاء في قطاع غزة، والحصول على مساعدات خارجية، بينما يتصاعد الاستيطان وتغيير الأرض الواقع في الضفة الغربية.

وتبنّت فصائل المقاومة في قطاع غزة، وتحديداً "حماس" والجهاد الإسلامي، القبول موقتاً لفكرة إدارة الصراع واحتوائه، لكن بسبب منطق مختلف عن المنطق الإسرائيلي؛ فمع الوضع المعيشي والأمني واختلال موازين القوة مع إسرائيل، وبسبب الانقسام الداخلي الفلسطيني، قبلت هذه الفصائل عملية التهدئة، لكنها استغلت ذلك لبناء قدراتها العسكرية، وحاولت "حماس" تثبيت سلطتها في القطاع أيضاً مع السعي لفك الحصار تماماً. بكلمات أُخرى؛ كانت مدرسة "إدارة الصراع" مدرسة أرادت منها إسرائيل تحييد قطاع غزة، وإبقاءه ضعيفاً، وتحت الحصار، بينما تتوسع استيطانياً في الضفة الغربية. أمّا "حماس"، فقد تبنتها لأسباب متعددة، منها السعي للانتقال بالقطاع إلى وضع يتجاوز الحصار، وتحسين الأحوال المعيشية، مع بناء قدرات مقاومة للردع وتغيير موازين القوى. ووجدت المدرستان في الدور القطري عاملاً مساعداً. وقد جاءت عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر كمحاولة من المقاومة لتغيير موازين القوى، وفرض الانتقال إلى مرحلة تتغير فيها شروط عملية إدارة الصراع، أو تؤدي إلى بدء عملية سياسية جديدة.

أمّا المدرسة الثانية، فهي مدرسة "حل الصراع"، وهي المدرسة التي تريد التوصل إلى تسوية سياسية قائمة على حل تفاوضي، وعملياً، هذه المدرسة باتت موضع اتفاق فلسطيني وعربي ودولي، مع رفض إسرائيلي يستفيد من تأييد "أعمى" ومادي لها ولسياساتها دولياً، وخصوصاً من واشنطن وأوروبا، ويتجاهل رفض إسرائيل التسوية السياسية، ويتجاهل اعتداءاتها اليومية.

وهذه المدرسة، عبر تسوية، هي البرنامج الفعلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، لكن مما يضعف فرص هذا البرنامج، فضلاً عن الرفض الإسرائيلي، والدعم الأميركي لإسرائيل، الوضع الذاتي الفلسطيني الضعيف من حيث عدم تفعيل مؤسسات العمل الفلسطينية، وعدم تجديدها عبر الانتخابات أو توافقات وطنية، وهو ما زاد من اختلال ميزان القوة لمصلحة إسرائيل.

وبالنسبة إلى المدرسة الثالثة، والتي روجت لها إسرائيل بصورة خاصة، وقبلتها الولايات المتحدة ودول عربية ضمنياً، فهي إمكان تجاهُل أو تهميش أو تأجيل القضية الفلسطينية، بحيث يحدث تطبيع عربي إسرائيلي من دون حل المسألة الفلسطينية أو الاهتمام بها.

وإذا ما انتهت أزمة الأسرى الإسرائيليين بأي شكل من الأشكال من دون عملية سياسية واتفاقيات تتعلق بالمرحلة المقبلة، فستتراجع فرص قبول إسرائيل بأي نوع من الوساطات أو التهدئة، بما ذلك تراجع قبول الدور القطري.

وهناك 3 سيناريوهات متوقعة لمستقبل قطاع غزة تمس الدور القطري:

أولاً، إذا وجدت إسرائيل فرصة كافية لحسم الصراع (حل الصراع) في قطاع غزة، عبر سياسات تهجير وإنهاء لقوى المقاومة، فسترفض أي دور لقوى إقليمية في المسألة الفلسطينية، بما في ذلك قطر، فرفْض الدور الإقليمي في المسألة الفلسطينية واضح حتى في مفاوضات التطبيع مع الدول العربية، كالسعودية والإمارات وغيرهما، وكان الدور القطري استثناء بسبب قدرة الدوحة على التأثير في مجريات الحدث على الأرض.

ثانياً، إذا عادت سياسات "إدارة الصراع" وانتهت الحرب من دون نتيجة واضحة، فستكون هناك فرصة لتدخلات إقليمية، وخصوصاً لأدوار مصرية وأردنية (بحكم الجغرافيا)، وقطرية بحكم الصلات مع "حماس" وباقي الأطراف.

ثالثاً، لفرض "حل الصراع" عبر عملية تسوية، وهو الهدف الفلسطيني، والعربي، والدولي، فإن البداية تكون بعلاج الانقسام الفلسطيني، وتقديم رؤية سياسية موحدة، وهذا يمكن أن يحدث بمبادرة فلسطينية ذاتية من القوى الفلسطينية، وخصوصاً قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ويمكن أن يحدث عبر عملية وساطة عربية ضاغطة، وخصوصاً المصرية والأردنية والقطرية، وتتضمن عملاً مع القوى الفلسطينية، وضغطاً على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، بالتضامن مع حلفاء إقليميين ودوليين. إن سيناريو كهذا هو الأكثر جدوى، ليس بالنسبة إلى الفلسطينيين وحسب، بل أيضاً للدول العربية ذات العلاقة المباشرة بالمسألة الفلسطينية، ومنها قطر، التي ستحتفظ بدورها كوسيط مقبول، وتحوّل "استثمارها" الطويل المدى في الشأن الفلسطيني إلى مكاسب.

 أحمد جميل عزم: أستاذ مشارك في العلاقات الدولية في جامعة قطر.

 

عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية

 

 

 
كلمات مفتاحية::
Loading...