يرى أمين معلوف "أن العالم يسير كالنائم نحو حرب عالمية"، لأن النائم لا يعي بالأخطار المحدقة به، فهناك أخطار كثيرة بعضها يأتي من المواجهات بين القوى الكبرى، وبعضها يأتي من أخطار التغيرات البيئية والتطورات العلمية التي تقود إلى انزلاق، وليس هناك آليات لضبط هذه الأخطار، وهذه الحرب لن تحدث بين ليلة وضحاها ولكنها أصبحت قريبة أكثر من أي وقت مضى، ومن الصعب تفاديها لعدم الثقة بين الدول الكبرى، فضلاً عن أزمة زعامات يعاني منها رأس النظام الدولي بدأت من "دونالد ترمب ثم جو بايدن، وانتهت بدونالد ترمب"، وترمب بسياساته المجنونة يريد أن يخنق ما تبقى من الكرة الأرضية.
ولتقصي الخلل في النظام السياسي الأمريكي وجوهر الأزمة السياسة، يرى اندرو باسيفتش في كتابه "حدود القوة.. نهاية الاستثنائية الأمريكية"، بأن هناك ثلاث أبعاد أساسية مهمة: فكرية تتناول ايديولوجية الأمن القومي، وتنظيمية تستعرض مؤسسة الأمن القومي، وأخيراً شخصية تعتمد على نوعية الرجال الحكماء المؤثرين في السياسات الخارجية لهذه القوة العظمى التي تقع على عاتقها صياغة الاستراتيجية الكبرى حول تحقيق هيمنة كونية وتشكيل العالم بما يتناسب وضرورات الأمن القومي والتي بلغت ذروتها، ولكن هؤلاء الحكماء الذين هيمنوا على الإدارة الأمريكية في الفترة الأخيرة قادوا الولايات المتحدة إلى حروب بلا نهاية وتكاليف واستحقاقات فاقت التوقعات بكثير.
وجود ترمب بالسياسة الأمريكية ظاهرة جديدة لا تعتمد على سياسته ولا شخصيته ولو كان هناك شخص آخر ارتكب هذه الأخطاء والمخالفات لما كان تمكن من الفوز، ولكن هناك توجه شعبوي يميني متطرف عند الجمهوريين، ينظرون إلى ترمب كقائد لا يخطئ ويصدقون كل ما يقوله، هذا يعني أن القاعدة الشعبية منقسمة، وهم ليسوا الأغلبية ولكنهم على الأغلب سوف يشقون الحزب، ينجم عنه صراع أمريكي داخلي يؤدي لانقسام حاد في أمريكا، فثمة حرائق تنتظرها أشد من الحرائق التي تشعلها في العالم، وتكون أمريكا العظمى على غرار بريطانيا العظمى، ويكون ترمب شاهد على غروبها الأخير، ترمب يحذر بأن الحرب العالمية الثالثة ليست بعيدة، وهو الذي يقدم نفسه كرجل سلام في عالم يفترض أن تكون البشرية عبيداً لامبراطوريته أو مملكته، ومن يدري ربما هو من يضع نهاية للبشرية!!.
منذ بداية القرن الخامس عشر وحتى بداية القرن العشرين بسط الغرب وأمريكا نفوذه على العالم، اليابان كانت التحدي الأول للغرب، وأول دولة من الشرق واجهت هذا النفوذ بعد أن كانت منغلقة كلياً على نفسها، قررت في لحظة تاريخية أن تنفتح على العالم، وتلحق ورقة التحديث وتحولت في بضع سنوات إلى دولة متقدمة، تمكنت من الانتصار على روسيا القيصرية عام 1905، فكان حدث مفصلي بالذات للعالم الشرقي، وانطلاقاً من هذا الحدث كل الشرق بدأ يتطور، وبدأت الثورات ضد الامبراطورية العثمانية، وضد شاه إيران، وضد الامبراطور الصيني.
ثم جاء التحدي الروسي، وكان تحدياً هائلاً للغرب بإعلان الاتحاد السوفييتي الذي يمثل عالم جديد يرفض به استغلال الانسان للإنسان، باقتصاد مختلف عن الاقتصاد الرأسمالي، وحتى السبعينات كان هناك انطباعاً بأن هذا التحدي قد ينتصر، وفجأة في سنوات قليلة إنهار التحدي، بالتسعينيات انتهت الحرب الباردة الأولى وخرج الغرب منتصراً بسقوط الاتحاد السوفييتي، رأى حينها بريجنسكي "بأنه عصر الفوضى الخلاقة الجديدة والتخلي عن سياسات الاستقطاب وصراعاته"، والمفروض بناء نظام عالمي جديد، أفشلته عودة الحرب إلى أوروبا مع الحرب الأوكرانية، تلته الحرب في الشرق الأوسط، والتوترات المتزايدة بشرق آسيا حول بحر الصين الجنوبي، ملامح لحرب باردة جديدة يدخل بها العالم، وكأنها في طريقها إلى صدام دولي قد يشمل عدة نطاقات مفتوحة.
والآن بدأ التحدي الثالث والأخطر، وهو التحدي الصيني الأمريكي، الذي يمثل تحدي على صعيد عودة النظام الشيوعي الممزوج بليبرالية السوق والاقتصاد الحر، والطموح الصيني بأن يشغل الموقع الأول كزعيم للتيار الشرقي المناهض للغرب مقابل التكتل الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، سياسة الغرب التي تستفز مبدأ الصين الواحدة، "والمفترض أنها معترفة به"، طرح بكين نفسها كبديل لواشنطن ليس وليد اليوم ولكنها مرحلة قادمة لا رجعة فيها تتوافق مع تحركات صينية ورسائل لواشنطن بخطوات ناعمة، والقلق الأمريكي من صعود الصين كقوة عظمى سياسية واقتصادية وعسكرية، تنذر بمواجهة، وترمب يدرك خطر الصين ويخطط لإبعاد روسيا عنها، فهل هذه المواجهة حتمية ؟؟ نعم، لأن الحرب بأوكرانيا وضعت الصين في موقف محفوف بالمخاطر قائم على موازنة شراكة الصين غير المحدودة مع روسيا ومع امكانية خسارة أسواق الغرب وتزايد التوتر وانعدام الثقة مع أمريكا وأوروبا، مما يضع الصين أمام خيار الانحياز المطلق لروسيا ضد الغرب، ويقرب أكثر من أي وقت المواجهة ونهاية النظام العالمي، فدعوا التنين نائماً، "الويل للعالم إذا استفاق" التحذير لنابليون.
كل الدلائل تشير أن الحرب في أوكرانيا انتهت، وتستعد روسيا للاحتفال بالنصر في 24 شباط بالتزامن مع ذكرى اندلاعها، بوتين يتهكم على أعظم تكتل اقتصادي وعسكري في العالم، بعد أن أخفق الغرب وأمريكا في تحقيق الردع والحصار بالعقوبات المروعة على روسيا، بتشغيل المصانع بأقصى قوتها، واستثمار الحقول بمنتجاتها الاستراتيجية، والامدادات العسكرية والمالية لأوكرانيا، دون أن يتحقق الرهان الأمريكي بتدمير الاقتصاد الروسي والاطاحة ببوتين، بقمة الرياض "كان لافتاً اختيار السعودية مكانا للقاء، ويؤكد دور السعودية كقوة معتمدة من القطبين في منطقتنا"، ترمب قبل مبدأ تغيير الحدود الموروثة من الحرب العالمية الثانية بالقوة، وأوكرانيا غير أطلسية وروسيا منتصرة باستيلاء بوتين على ربع أوكرانيا، وأوروبا عارية تماماً غير قادرة على مواجهة روسيا لعدم تمكنها من سد الفراغ الذي سيحدثه الانكفاء الأمريكي، وزير الدفاع البريطاني غرانت شابس سابقاً أعلن انتقال بلاده "من عالم ما بعد الحرب إلى عالم ما قبل الحرب الجديدة"، وأنه في السنوات الخمس المقبلة قد تكون هناك حروب تشمل دول استبدادية، روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران، متزامنة بمخاوف أوروبية من أن بوتين قد يبادر بالهجوم على احدى دول الناتو، واحتمال نشوب حرب عالمية ثالثة مع روسيا، وجزء من مبادرة الناتو لتطوير المواقع النووية كان رداً على تهديد بوتين بصواريخ اوريشنيك الفرط الصوتية، أوروبا لن تكون أمنة إلا بهزيمة روسيا في أوكرانيا، ولكن ترمب باع أوروبا وأوكرانيا ليثبت أن بايدن كان مخطئاً بقرار الحرب ودعمها، وقرر تقليص نفوذ الدولة العميقة التي أشعلت الحروب، واتباع سياسة الهيمنة والتهميش والسحق مع أوروبا من خلال السياسة الصناعية والحرب التجارية والمفاوضات، ولكن هل يعي ترمب تحذير الأمريكي بول كروغمان من "أن العصيان الأوروبي إن حدث فقد يعيد أمريكا إلى الهنود الحمر؟!.
بالوقوف على أوجه الشبه بين الأسباب الحقيقية وراء اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، نجد أن هذه الأسباب باتت متوفرة وتنذر بوقوع حرب عالمية ثالثة، بعد الحرب العالمية الثانية تم إعادة بناء نظام عالمي جديد، وتأسيس الأمم المتحدة، التي تتحكم اليوم في قراراتها الدول المنتصرة في الحرب، ويوماً بعد يوم تفشل الأمم المتحدة بمهامها في تحقيق السلم والأمن الدوليين، وتحول العالم من التعددية إلى الثنائية، ثم الأحادية، وأمريكا تستخدم القوة للهيمنة بحاجة إلى تثبيت تموضعها القطبي، ووضع حد لتطلعات الدول الراغبة في مشاركتها قيادة العالم، الصراع يشي بأن النظام العالمي لم يعد يجدي معه الترميم نفعاً، وأصبح بحاجة إلى هدم وإعادة بناء جديدة تتناسب وعملية التحول الدولي، وخاصة الصراع العربي الإسرائيلي الذي تخطى الحروب الباردة، بدأ قبلها ويستمر، كان تحدياً أخلاقياً وسياسياً للغرب بما يجعل من هذا الصراع عاملاً يسهم في تدهور مكانة الغرب وأمريكا في العالم، "فإذا كنت ترغب بالسلام فاستعد للحرب".