واضح أن سياسة ترمب تتسم حتى اللحظة بالواقعية العدوانية، والتي تعتمد على الفوضى كأداة لإعادة هندسة العالم. فهي تحمل مخاطر هائلة، لأن الفوضى المطلقة قد تؤدي إلى نتائج غير متوقعة، منها فقدان السيطرة على المشهد العالمي، وانهيار التحالفات التقليدية التي تعتمد عليها الولايات المتحدة، كما والتوازنات الدولية المختلفة.
فمع الحديث اليوم عن مشروع قرار بالكونغرس الأمريكي حول الانسحاب من هيئة الامم وما يعني ذلك في مفهوم الدولة المنعزلة وما فوق الإجماع الدولي ومن إشاعة الفوضى والتملك الأمريكي بإدارة العالم. يُطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترمب تصريحات تكشف عن رؤيته الحقيقية تجاه القضية الفلسطينية. ففي مقابلته الأخيرة يوم أمس مع "فوكس نيوز"، أعرب عن دهشته من وضع غزة ومن طبيعتها الجميلة، متسائلًا كيف تركتها إسرائيل، في تلميح واضح وضمني إلى ضرورة إعادة السيطرة الكاملة عليها. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أكد أن خطته لإعادة إعمار القطاع تتضمن "مجتمعات جميلة" للفلسطينيين، وهو ما يتماشى مع مشاريع التهجير القسري تحت مسمى الطوعي التي لطالما حاولت إسرائيل فرضها ومع نظرية ترمب للفوضوية الواقعية.
هذه التصريحات ليست بعيدة عن المسار الإسرائيلي الممنهج في الضفة الغربية، حيث قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بزيارة مفاجئة إلى مدينة طولكرم أمس، برفقة قادة جيش الاحتلال الإسرائيلي، في خطوة عدوانية وانتهاك صارخ لكل الاتفاقيات الدولية كما جرت العادة. هذه الزيارة لم تكن مجرد استعراض سياسي، بل جاءت ضمن سياسة تقويض دور السلطة الوطنية بل ومحاولة إنهائها لانتهاء دورها وفق رؤيتهم، والتي كان من المفترض وفق رؤيتنا أن تكون مرحلة تجاه تجسيد الدولة، الأمر الذي لم يكن واضحاً في اتفاق أوسلو ولم يُسمح به وفق النظام الدولي أحادي القطب القائم. هذا إلى جانب التصعيد المستمر بكافة الأشكال والضغط على شعبنا الفلسطيني لدفعهم إلى مغادرة أراضيهم تحت وطأة القمع والإرهاب العسكري والتضييق الاقتصادي.
في ذات السياق، يأتي إعلان الأخ الرئيس محمود عباس خلال اجتماع المجلس الثوري لحركة "فتح" عن مؤتمر سلام سيُعقد في واشنطن في نهاية حزيران القادم، مما يثير التساؤلات حول جدية وجدوى مثل هذه المبادرات الأمريكية في ظل التصعيد الإسرائيلي والتواطؤ الأمريكي الواضح ولقاء ويتكوف مع مطوري العقارات الأمريكيين أمس لإعادة إعمار غزة وفق الرؤية الأمريكية. فبينما يجري الحديث عن دعم المفاوضات في غزة ومؤتمر سلام في واشنطن، تواصل إسرائيل فرض واقع جديد على الأرض من خلال الضم والاستيطان والاعتداءات العسكرية واستمرار الإبادة والاقتلاع لتنفذ بشكل واضح رؤيتها حول إسرائيل الكبرى. هذا التناقض يكشف عن طبيعة السياسة الأمريكية الشريكة لإسرائيل التي تعلن عن جهود سلام في العلن، بينما تمنح إسرائيل الضوء الأخضر لمواصلة سياساتها الاستعمارية.
إن ما نشهده اليوم ليس مجرد مواقف سياسية عابرة، بل هو تنفيذ عملي لمشاريع استعمارية تهدف إلى إعادة هندسة المشهد الفلسطيني وفق الرؤية الإسرائيلية-الأمريكية الاستعمارية. فحديث ترمب عن "تحسين حياة الفلسطينيين" لا يعني سوى محاولة تصفية القضية عبر حلول اقتصادية و"صفقات" تلتف على الحقوق السياسية والسيادية لشعبنا. أما تحركات نتنياهو في طولكرم، فهي جزء من مخطط أشمل لإحكام السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية واستكمال سياسة الضم الفعلي نحو مشروع إسرائيل الكبرى تحت غطاء "الأمن ومكافحة الإرهاب".
في ظل هذا الواقع، يصبح من الضروري أن يجري التعامل مع هذه التهديدات بحكمة ووضوح استراتيجي، عبر تعزيز الوحدة الوطنية الواسعة وتفعيل الحراك السياسي والديبلوماسي لفضح هذه المخططات كما والمقاومة الشعبية بعد ضرورة تمكين شعبنا منها وحمايته. فالمعركة اليوم ليست فقط على الأرض، بل أيضاً على السردية التاريخية والرواية والشرعية الدولية. وكلما زادت محاولات تغييب القضية الفلسطينية، كان من واجبنا أن نرفع الصوت عالياً بأن فلسطين ليست للبيع، وشعبها لن يقبل بأي تسوية تُفرض عليه بقوة الاحتلال أو المال السياسي أو الترتيبات الأمنية. ولكن لا يكفي أن يكون هذا مجرد شعار كما تم رفعه في اجتماع المجلس الثوري لحركة "فتح" على أهمية ذلك، بل يجب أن يكون مقروناً بإجراءات وخطوات عملية تتعلق بإعادة النظر في العلاقة مع إسرائيل من جهة، وفي العلاقة مع الولايات المتحدة من جهة أخرى والتموضع السياسي على المستوى الدولي من التحالفات بشكل يخدم قضية شعبنا الوطنية السياسية وتمثيله الشرعي الواحد. كما يجب العمل على دفع الدول العربية لاتخاذ مواقف أكثر استقلالية وإرادة سياسية لمواجهة الضغوط الأمريكية في لقاء القمة القادم بالقاهرة بعد أن تم أمس عقد لقاء قمة
أخوي مصغر بالرياض دون الحضور الفلسطيني. وذلك من خلال بناء تحالفات استراتيجية تعزز الموقف الفلسطيني وتعزز الخيارات الوطنية الوحدوية في مواجهة مشاريع الهيمنة والاستيطان والتهجير.
لذلك باعتقادي، وفي ظل الرؤية الإسرائيلية القائمة والتدخلات الأمريكية الشريكة التي أشرت لها، يتوقع أن تشهد الضفة الغربية تحولات كبيرة نحو تقويض بل ومحاولة إنهاء السلطة الوطنية الفلسطينية، وتشكيل سلطات "متجددة" خدماتية تحت إشراف أمني إسرائيلي- أمريكي بعيداً عن الرؤية الوطنية التحررية، وتنفيذ ما يجري الترتيب له لقطاع غزة وفق ما ذكرت. هذه التطورات ستتضح أكثر بعد القمة العربية المفترضة الأسبوع القادم وتبيان مدى الإرادة بالوصول إلى رؤية وموقف عربي مشترك مستقل أو الجنوح باتجاه التبعية والتطبيع من جديد في ظلال منهج ترمب في فهم الواقعية السياسية القائمة على القوة العدوانية للإدارة الأمريكية وفرض عقد الصفقات مع القوى أو احتوائها. وهنا لا بد من تهنئة الأسرى الذين عانقوا الحرية والأمنيات لمن تبقى منهم في زنازين الاحتلال البشع.