بقلم: راغب جابر
لا تلتفت إيران كثيراً إلى الانتقادات الموجهة إلى سياستها في الإقليم ولا إلى المطالبات الكثيرة، العلنية والضمنية، بالمشاركة في حرب الدفاع عن غزة مباشرةً بدل تشجيع التنظيمات الدائرة في فلكها على المشاركة في هذه الحرب مشاركةً إفرادية ومدروسة بعناية. تدير إيران سياستها حيال الحرب على غزة بكثير من التروي والدقة والحسابات المضبوطة والهادئة جداً قياساً بلهجتها السابقة التهديدية والصاروخية والتدميرية، فالكلام أوقات الحرب يختلف عن الكلام أيام السلم. اليوم كل شيء محسوب بدقة وكل كلمة لها ما بعدها.
لم يكن عبثاً نأي إيران عن المسؤولية عن حرب غزة فور اندلاعها وتكثيف إعلامها وإعلام "حلفائها" في الإقليم الحديث عن القرار الذاتي لـ"حماس" تنفيذ عملية "طوفان الأقصى"، فالسياسة الإيرانية التي ظاهرها الكثير من الكلام التهديدي وباطنها مد جسور التفاوض مع أميركا بالواسطة ومع الغرب والشرق في آن واحد، تدخل في إطار الاستراتيجيا البعيدة الأهداف التي تضمن سلامة الأراضي الإيرانية ومؤسسات الدولة ومنشآتها الاستراتيجية.
يرصد المتابعون تحولاً في الخطاب الإيراني، لم يعد قائد الجيوش الإيرانية يريد تدمير إسرائيل في سبع دقائق، ولم يعد قائد الحرس الثوري يريد إزالتها من الوجود إذا هاجمت مواقع ومراكز إيرانية في سوريا، ومنحها المرشد الأعلى 25 عاماً لتزول من الوجود على أيدي المقاومين الفلسطينيين (المدعومين طبعاً من إيران الإسلامية). بعدما كان العسكريون الإيرانيون يهددون إسرائيل بالدمار الشامل، يبدو أن الحرب على غزة أعادت دوزنة الخطاب لتجعله أكثر واقعية واستجابة لمصالح البلاد العليا. ومصلحة إيران العليا أن تنأى بنفسها عن حرب كبيرة، قد لا تخسرها، لكنها ستخسر كثيراً جراءها.
الواقع أن إيران ليست بعيدة من حرب غزة، هي منغمسة فيها عسكرياً واستخبارياً ودبلوماسياً، لكن إلى الكاحل فقط، وتسعى إلى الحصول على ثمن عندما يحين موعد دفع الأثمان وقبضها. تعمل إيران وفق قاعدة النفس الطويل ولا تستعجل حرق المراحل. تعلم أن العالم لا يأخذ بالاعتبار تصريحات قادة جيوشها وحرسها وميليشياتها بل يتعامل معها من وراء الكواليس. إيران موجودة في الصورة الخلفية لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر وفي هجمات الميليشيات العراقية على القواعد الأميركية في سوريا والعراق، وإذا كانت هجمات الحوثيين هي الأكثر تأثيراً عالمياً إلى جانب الضغط على إسرائيل الذي تشكله نصف الجبهة المفتوحة بين "حزب الله" والجيش الإسرائيلي على الحدود الجنوبية للبنان مع فلسطين، فإن الجبهة العراقية على الأميركيين تثير أسئلة حول أهميتها وتأثيرها والوجع الذي تسببه للأميركيين.
هل تريد إيران أن تتجنب حرباً كبرى؟ هل تخاف اندلاع مثل هذه الحرب؟
فيما تمضي إسرائيل في حرب غزة بوحشية غريزية لا هوادة فيها، وفي صمود تاريخي للفلسطينيين الذين يتحملون ما لا يحتمل من قتل وتدمير وبرد وجوع وتشريد، لا تظهر أي مؤشرات على انغماس إيراني أكبر في الحرب، لقد ارتكبت إسرائيل ذروة الفظائع وبدأ الحديث الآن عن مرحلة التسويات الكبرى، عواصم القرار تتداول في السيناريوات المحتملة لوقف الحرب ولما بعدها. لم تنضج التسوية بعد لكنها قد تكون باتت قريبة، استمرار الحرب هو جزء منها، لكن في النهاية لا بد من تسوية وإيران تريد أن تكون إلى طاولتها، وفي يديها أكثر من ورقة تستخدمها في المحور الذي تسعى إلى تعميق نفوذها فيه وتعتبره جائزة ترضية لها.
عندما تنتهي حرب غزة لن يبقى الخطاب الإيراني على حاله، شعارات المرحلة المقبلة ستتغير، عمق السياسة سيبقى، لكن ستختفي تعابير السحق والمحق والإزالة، سيفرض المنطق تواضعاً لفظياً على الأقل. لن تخرج إيران من الحرب لأنها لم تدخلها مباشرةً، لكنها ستكون في صلب ما بعدها وستجترح خطاباً جديداً يلائم المرحلة المقبلة، أياً كانت نتيجة الحرب على غزة.
من الآن يمكن القول إن إيران ستستثمر نتائج الحرب استثماراً مربحاً لها، فهي لم تخسر شيئاً حتى الآن والحرب بعيدة من أرضها ومنشآتها. وقد تعاملت بصبر طويل جداً مع الاعتداءات الإسرائيلية شبه اليومية على مقارها وقيادات حرسها الثوري في سوريا. صحيح أنها خسرت بعض كبار ضباطها وأمنييها، لكن كثيراً من المحللين الدائرين في فلكها يروّجون لنظرية أن هذه الخسارات لن تؤثر كثيراً على هيكلية أجهزتها الأمنية، وأن شهادة هؤلاء تشد من عزيمة "الأمة" ولا توهنها، ويذهب بعضهم إلى حد إيجاد التبريرات لصمت طهران عن الرد "الذي سيأتي مزلزلاً في الزمان والمكان المناسبين".
ستدير إيران "حروبها" المتنقلة على غرار قصف منزل في أربيل أو محيط قاعدة أميركية في العراق ضمن قواعد اشتباك مضبوطة إلى حد كبير، ولن تجرها إسرائيل كذلك إلى حرب كبرى كلتاهما لا تريدها. فقط حدث غير متوقع قد ينسف كل القواعد.
عن النهار العربي