ترمب "أنا أمريكا، أنا العالم" وماذا عن الآخرين؟!!

 

 

 

 

ماذا تعني الفوضى الراهنة كنتيجة لصراع متعدد الوجوه، صراع حضاري وصراع ايديولوجي، وصراع أسواق، وصولاً إلى التطرف العقائدي والقومي، مما يضع العالم في مرحلة اللاعودة من التمزق والأزمات، ويفرض تحولات وترتيبات جديدة في العلاقات الدولية بظل نظام دولي مهيمن يعزز مفهوم القوة والتدخل العسكري للاستيلاء على مقدرات الشعوب، ويعد بروز اليمين المتطرف على الساحة السياسية الأوروبية وتصدره النتائج شبه النهائية في دول كبيرة لها تاريخ عريق كألمانيا وفرنسا، وسيطرة أحزاب اليمين المتطرف على ما يقارب 25% من البرلمان الأوروبي، إحدى أكثر الظواهر السياسية أهمية خلال العقدين الأخرين من القرن الماضي في أوروبا، واليوم نجد سياسيون بارزون يتحدثون بلغة صدام الحضارات من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وحتى الدول الأوروبية التي تحتقر الحضارات والثقافات الأخرى وتنظر إلى الشعوب غير الغربية بنظرة استعلائية، كل ذلك مع تعظيم ترمب "لأمريكا أولاً"، يستحضر قراءات هنتنغتون حول صدام الحضارات التي أطلقها عام 1996، وانطلقت معها مناقشات فلسفية عما ينتظر العالم، ترمب "أنا أمريكا، أنا العالم"، وماذا عن الآخرين؟

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، حدثت نقلة نوعية على مستوى الصراع في المجتمع الدولي حيث لم تعد الحروب حروب ايديولوجيات بل حروب هويات ثقافية، يعيد رؤية هنتنغتون "بأن المصدر الأساسي للصراع في العالم الجديد سيكون بالدرجة الأولى عقائدياً وبالدرجة الأولى اقتصادياً، وستكون التباينات الكبرى بين البشر والمصدر المهيمن للصراع ثقافية، وستظل الدولة القومية أقوى اللاعبين في الشؤون العالمية وسوف يسود صدام الحضارات السياسة العالمية"، سقوط المعسكر الشرقي هو انتصار لليبرالية التي يحق لها أن تسيطر وتهيمن على جميع دول العالم وتعيد صياغتها وفق معاييرها، وجهة نظر لا تنفصل عن مجريات الأحداث في العالم وسيادة منطق القوة والتدخل العسكري، وعنوان لمرحلة حرب حقيقية يقودها الغرب على شعوب العالم والاستيلاء على مقدراته، ويبرر الهجوم الغربي على الشرق وخاصة المسلم.

الدين في نظر هنتنغتون يلعب دوراً أكثر فاعلية من غيره في العلاقات والصراعات في القرن الواحد والعشرين، "الحرب الدائرة في أوكرانيا مخالفه لرؤيته!!". لذلك قسم العالم على أساس ديني إلى تسع حضارات الغربية والارثوذكسية والاسلامية والافريقية والصينية والهندوسية والبوذية واليابانية والأمريكية اللاتينية، وتوقع أن تشكل هذه الانقسامات الحضارية العلاقات بين الدول بعد نهاية الحرب الباردة، "مع نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي وسقوط الحركات الشيوعية العالمية العدو المشترك للغرب والاسلام، سيحل محل ذلك نضال جديد تدور رحاه بين عدوين لا يمكن التوفيق بينهما: الاسلام والغرب"، حضارة متخلفة ارهابية مقابل حارة متقدمة غربية، اذن جوهر الصراع الحضاري الذي يفترضه هنتنغتون الاسلام كعدو لا سبيل الا حتمية مواجهته، فعل من أفعال الكراهية والعنصرية ومظهر من مظاهر الإسلاموفوبيا المحرضة على العنف والاساءة للأديان، ولهذا تولد التنافس والصراع بين الثقافتين الغربية والاسلامية بالرغم من أن العالم الاسلامي يفتقد لقواسم مشتركة تجمعه وهناك فروق واختلافات لا حصر لها فيه، فكانت حروب الولايات المتحدة الأمريكية في العراق وأفغانستان، والصراع في أوروبا بين البوسنة والهرسك.

صراعات تعبر عن تزاحم للهويات في ظل ظهور ربيع الحركات الشعبوية، والعولمة والانفتاح الكبير التي تدعو إلى الغاء الهويات الصغيرة مما أدى إلى نتائج عكسية فأصبح خطاب الخصوصية الثقافية والهوية القومية يشكل ايديولوجيا تحتمي به المجتمعات المهمشة لتحصين نفسها والدفاع عن مصالحها في مواجهة الأخر، فأصبح التطرف وتفاقم النزعة القومية منتشر في العالم وبالأخص أوروبا، مثلاً الحزب البديل في ألمانيا يؤسس لنواة للنازية مع نقاء العرق الأري، تدين لها اليمين المتطرف المسيحي بشكل مطلق، بدأ بعضوين عام 2013 أصبح ثاني حزب في ألمانيا، أهم سياساته التنمر على الاسلام ورفضه كجزء من المجتمع الألماني واقامة دولة قائمة على النقاء العرقي بحدود شفافة توسعية، فالسمة الرئيسية الغالبة على الجماعات والأحزاب المنضوية في اطار اليمين، هي الخطاب الذي يتحدث باستمرار عن وجود تهديد عرقي أو ثقافي من قبل مجموعات تعتبر دخيلة على المجتمع وعن ضرورة الحفاظ على الهوية الوطنية الثقافية، ومن ثم تأتي معارضة اليمين المتطرف للهجرة ورفض المهاجرين بالإضافة إلى النزعة القومية، وتوظيف الإسلاموفوبيا في ممارساتها السياسية، ودعاياتها التي تتبنى أفكاراً عنصرية متطرفة تحض على كراهية الأجانب وتعنيفهم.

التجاوزات العنصرية في أوساط المهمشين في الضواحي الفقيرة في فرنسا هي نموذج لصراع هوياتي ديني وثقافي محتقن وقد يصل إلى صراع حضاري، بعدما فتحت فرنسا لمئات آلاف المهاجرين وبالأخص العرب الهاربين من القهر السياسي والاجتماعي في بلادهم، لم تفلح في ادارة هذا التنوع وانتزاع ثقافاتهم ومعتقداتهم الدينية ورسم إطار للتعايش بين مختلف الهويات المتعددة وادماجهم، فتزايد شعورهم بالكراهية وبالإقصاء الجماعي وبأنهم منبوذين من المجتمع الفرنسي، الأمر الذي أثار النقاش حول سياسات وممارسات الدولة والشعب الفرنسي تجاه المهاجرين الموسومة بالعنصرية.

الحرب الحالية التي تشنها حكومة التطرف والتشدد والفاشية في ائتلاف نتنياهو ضد الفلسطينيين في الضفة كان لها صفة دينية من خلال تصوير الجنود والضباط في مشاهد صلوات وخضوع وأدعية تناشد المباركة في المعركة، "فحرية التعبير جزء من الديمقراطية ولكن ما هو قانوني ليس بالضرورة أن يكون ملائماً"، عقوبة معاداة السامية تطبق على كل من يتضامن سياسياً أو اعلامياً وينتقد جرائم وانتهاكات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني سياسات منهجية قديمة ومتأصلة ذات طبيعة استيطانية وعنصرية تتفاوت توقيتها وتتنوع أغراضها طبقاً لاعتبارات طارئة وأخرى دائمة، قتل الأطفال وتهجير الفلسطينيين وجميع الجرائم تحظى بصمت كامل من الغرب، مادام يحقق مكاسب استراتيجية ويجنب إسرائيل مخاطر أمنية، فالديمقراطية التي يدعيها الغرب وأمريكا تحمل ازدواجية على كافة الأصعدة وخاصة فيما يخص العرب والمسلمين.

نظرية هنتنغتون حول صدام الحضارات مدرسة فكرية وضعت حجر الأساس لاستراتيجية بعيدة الأمد للمجتمع الأمريكي لضمان قوته وحماية مصالح الحضارة الغربية في الطاقة والأسواق، وتفادي المنافسين في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا باعتبار الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الوحيدة التي لها هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية مطلقة في العالم وتضرب بكل مكان، ولكن أمريكا والغرب استطاع قيادة العالم ليس بقيمه وأفكاره بل لقدرته في تطبيق العنف المنظم. قامت على إبادة الهنود الحمر كما تفعل إسرائيل بالشعب الفلسطيني، ترمب يدعم الأحزاب الشعبوية التي تتصاعد في أوروبا، والتشكيك الشعبوي في الديمقراطية وفي مؤسساتها وايمانهم بأن هذا النمط من الحكم لم يعد يوفر الأمان الاقتصادي للسكان وهذا سيؤدي إلى زعزعة استقرار المجتمعات الأوروبية، ويهدد مستقبل الاتحاد الأوروبي في ظل تشكيك تلك الأحزاب فيه، وقد تنجح محاولاتهم يوماً ما، بوجود ترامب الشعبوي الذي سمح ببروز الهويات القائمة على التميز الثقافي، قد نكون على أبواب مرحلة يعاد فيها تشكيل هوية أوروبا وخريطة التحالفات السياسية وتحديد الأولويات لا سيما أن الاقتصاد الأوروبي الذي يمثل ما يقرب خُمس الناتج الاجمالي العالمي يواجه أصعب اختبار له بالوقت الراهن.

مادام ترمب يتعامل مع حلفائه ومع أعدائه بمنطق الأنا وما بعدي الطوفان، يدفع إلى تقويض الاستقرار العالمي والخشية من حرب عالمية ثالثة في ظل الانقسام لا بل الانشطار، ويدق المسمار الأخير في نعش المبادئ العالمية السابقة بم الحرب العالمية الثانية، باتت الأحلاف القديمة مهددة بالتمزق والتصارع، ، والتوقع باحتضار النظام القديم، فيما صورة العالم الجديد لم تتضح على الرغم من سيادة سياسة القوة والتلاعب بمصائر الجغرافيا ومصائر الشعوب.

 

 

 

 

 

كلمات مفتاحية::
Loading...