لا تزال حركة “حماس” مصرّة على الاستمرار في حكم غزّة. موقف فيه الكثير من الاستخفاف بما جرى، ويعبّر عن انفصال كلّيّ عن الواقع. ألم تفشل التجربة الثوريّة بعد ما يقارب عشرين سنة من القطيعة مع المشروع الفلسطيني؟
لست هنا في صدد الحديث عن سلطة رام الله وخيباتها وتعثّرها بل وفشلها. ذلك موضوع آخر لا يقلّ وجعاً. ولكنّ غزّة بعد كلّ الذي انتهت إليه وانتهى إليه أهلها تستحقّ أن تُعالَج بطريقة مختلفة. يليق بها أن يتّخذ أبناؤها موقفاً من العشرين سنة الماضية التي لا يمكن إلقاء تبعاتها كلّها على العدوّ الإسرائيلي.
إسرائيل ليست خصماً شريفاً، بل هي عدوّ، شعاره قتل الفلسطينيين أينما وُجدوا ومتى تسمح له الفرصة بالقيام بذلك. غزّة محاصرة ومن غير أمل. كانت “حماس” (عذراً) حجّةً وحسب. ذلك صحيح. ولكنّ ما حدث في السابع من أكتوبر 2023 قلَب الموازين كلّها لمصلحة العدوّ. ذلك ما كان ينتظره قياساً لما قام به فيما بعد. أمّا موقف العالم فقد ارتبط بالموقف الإسرائيلي. لذلك حرب الإبادة التي تعرّض لها أهل غزّة لم يعتبرها أحد جريمةً ضدّ الإنسانية.
غيّرت تداعيات حرب غزة كلّ المعايير والمقاييس القديمة التي كانت قائمة وإن لم تكن منضبطة دائماً. ما كان مقبولاً إلى حدّ ما وبنسب مختلفة، وذلك حسب طريقة التعامل معه، صار لا يتطابق مع ما يقبله العقل السليم على أساس الجدل. أهل غزّة محاصرون اليوم بطريقة أشدّ عنفاً من الحصار الإسرائيلي القديم.
أوّلاً هناك جريمة يجب أن تستمرّ ليُقتل المزيد منهم بعدما فقدوا كلّ أسباب الحياة الكريمة. وثانياً هناك قوى إقليمية ودولية صارت تدعم الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مشروعه الفاقد الأهليّة الهادف إلى ترحيل أهل غزّة والبحث من جديد في مستقبل القطاع خارج إطار هويّته الفلسطينية والعربية. وإذا ما كانت إسرائيل قد تمدّدت على أراضي سورية مستغلّةً ما جرى هناك من انقلاب جذريّ، فإنّ ما هو أقرب إلى الواقع منه إلى التكهّن أن تفكّر إسرائيل بضمّ غزة، لكن بعدما تُفرغها الولايات المتحدة من سكّانها. أمّا ريفييرا ترامب فهي كلام لا قيمة له.
لا أعتقد أنّ ذلك كلّه غائب عن العقل السياسي لحركة “حماس” التي صار قادتها يغيبون تدريجياً بفعل التصفيات. وهو ما يعني أن لا أحد يمكن أن يضمن لأولئك القادة حياتهم إذا ما انتهت الحرب. كان هناك دائماً حديث مراوغ عن الضمانات. ولكن من هي الجهة التي يمكنها أن تقدّم تلك الضمانات وتؤكّدها واقعيّاً في ظلّ إصرار إسرائيل على الانتقام والثأر، وهو شعار الداخل الذي يدعم بنيامين نتنياهو في جريمته؟
التفكير في الولايات المتحدة هو مزحة سخيفة. لا تقدر الولايات المتحدة على القيام بدور الجهة الضامنة، بل لا تريد أصلاً سوى أن تزيد من حجم تأييدها لنهج نتنياهو في الانتقام. نسمع بين حين وآخر عن مفاوضات مباشرة وغير مباشرة مع حركة “حماس”، لكن لا أحد في إمكانه التكهّن بموضوع تلك المفاوضات. ليست سلامة قادة “حماس” واحدة من مفردات التفاوض. منطقيّاً وبعد كلّ ما جرى، أثبتت “حماس” أنّها لم تعد مؤهّلة للبحث في خيارات ما بعد الحرب. كانت طرفاً في حرب هدمت غزّة وقتلت وشرّدت أهلها، لكنّها واقعياً لن تكون كذلك اليوم وغداً، بمعنى أنّها لن تكون طرفاً في ما سُمّي بـ”اليوم التالي”.
خارج السياسة الفلسطينية بكلّ مطبّاتها ودسائسها وتعارضاتها واختلاف توجّهاتها، وما خفي منها وما ظهر، يوجد ما يمكن أن يشكّل بُعداً إنسانيّاً يتعلّق بمصير الفلسطينيين وفي مقدَّمهم أهل غزّة. من المؤكّد أنّ سلامة قادة حركة “حماس” ليست أهمّ من سلامة شعب غزّة، وقد صارت القضيّة الفلسطينية بين قوسين بعدما تحوّلت إلى إجراء إيرانيّ يقع على هامش المشروع التوسّعي الذي بدأ انهياره في غزّة ولبنان وسوريا.
سيكون من الصعب أن يستمرّ منطق “حماس” القديم من غير مراجعة. ستكون تلك جريمة مضافة. ربّما لا أحد يرغب في الحديث عن الجريمة الأصليّة بسبب الخوف من الاعتراف بحقيقة ما جرى، لكنّ الزمن لا يسمح بذلك. ذلك زمن ساهمت حركة “حماس” في صناعته. وهو ما لا يمكن إنكاره.
ترفض حركة “حماس” أن تختفي من المشهد وأن تكون من الماضي. وهو ماضٍ مؤلم ومفجع بالنسبة لأهل غزّة بشكل خاصّ، والفلسطينيين عموماً، وأيّ استعادة للسنوات التي حكمت فيها حركة “حماس” غزة ليست لمصلحة الحركة بقدر ما تشكّل تلك السنوات إدانة لها لأنّها:
1- عزلت غزّة عن فلسطين وصنعت منها دولة ليست لأحد.
2- أفرغت القضيّة الفلسطينية من محتواها النضالي العربيّ وسلّمتها لإيران مستظلّة بشعار المقاومة الإسلامية الذي أثبت أنّه جزء من المشروع التوسّعي الإيراني.
قبل أن يتمّ السماح للعدوّ الإسرائيلي بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في حقّ أهل غزّة، كانت تحدث جريمة تمثّلت في تحويل غزّة إلى بضاعة إيرانية، وصار مصير أهلها عرضة لتقلّبات ذلك البازار.