في زمنٍ تتداخل فيه الدماء مع التحولات الدولية الكبرى، يبدو مشهد غزة أكثر من مجرد عدوان عسكري، إنه مرآة مكشوفة لوجه نظام دولي آخذ في التصدع، ومؤشرات على أفول الهيمنة الأمريكية التي طالما شكلت الغطاء الصلب لكل المشاريع الاستعمارية في منطقتنا، وعلى رأسها المشروع الإسرائيلي المبني على الفكر الصهيوني والسردية التوراتية الذي أصبح واضحاً أنه لن يحقق الانتصار.
لقد جاءت المبادرة المصرية الأخيرة، كغيرها من محاولات وقف إطلاق النار، كاستجابة إنسانية عاجلة في وجه آلة الحرب، وهي تحمل في طياتها توازناً دقيقاً بين موقفين متباعدين هما، الإسرائيلي الذي لا يرى في الهدنة سوى فرصة لإعادة التموضع، والفلسطيني المقاوم الذي يتوجب ان يدرك أن كل توقف مؤقت قد ينقذ حياة، لكنه لا يلغي جوهر المعركة.
وفي مقابل الجمود الظاهري في المفاوضات، استغلت إسرائيل الوقت لتواصل عدوان الإبادة والاقتلاع على غزة واستمرار تهجير المخيمات بالضفة لاستكمال تنفيذ مشروعها الاستيطاني التوسعي والإحلالي الذي يستهدف هويّتنا ووجودنا، فالهدف بالنسبة لنتنياهو والحركة الصهيونية هو منع إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة ومتواصلة جغرافيا. فيما وعدت "شكلياً " بدراسة المبادرة المصرية دون إبداء أي نية حقيقية للقبول بها. هذا التكتيك ليس جديداً، بل يعكس واحدة من ركائز السياسة الصهيونية القائمة على شراء الوقت بالمجازر والجرائم برعاية بريطانية وأمريكية واضحة منذ ما قبل النكبة الأولى حتى اليوم.
لكن ما يستوقفني هنا هو ظهور اسم ستيف ويتكوف، الذي وإن أُدرج ضمن الوفد الأمريكي، يتصرف باعتباره صاحب القرار الحقيقي في الملف الإسرائيلي، متجاوزاً الأدوار الشكلية للوسطاء فزياراته إلى الإمارات واللقاءات المرتقبة في القاهرة والدوحة، تشير إلى إدارة أمريكية للملف لا بهدف الحل، بل لإبقاء جذوة الحرب مشتعلة، وفق مبدأ "المفاوضات تحت النار".
دور الولايات المتحدة وسط نظام دولي متغيّر
إن المبادرة المصرية لا تأتي فقط في سياق محلي أو إقليمي، بل تندرج ضمن لوحة عالمية تتغير بسرعة. الولايات المتحدة، رغم ما تبديه من هيمنة، تمر بأزمة داخلية عميقة، من انقسام سياسي، أزمة اقتصادية، صراع مؤسساتي، بروز فاشية رأس المال واستقطاب مجتمعي حاد. وهي بذلك تُظهر كل علامات الانهاك الإمبراطوري التي تحدث عنها المؤرخون، من ابن خلدون إلى ماركس حتى بول كينيدي.
وما يبدو اليوم من تصلّب أمريكي في دعم العدوان الإسرائيلي، ليس تعبيراً عن قوة، بقدر ما هو محاولة لصرف الأنظار عن التصدعات الداخلية عبر تصدير الأزمات إلى الخارج، واستخدام "العدو الخارجي" كوقود تعبئة داخلية، كما يفعل ترمب وخصومه في الولايات المتحدة على حد سواء.
بهذا المعنى، فإن المشروع الإسرائيلي الاستيطاني التوسعي الإحلالي، الذي يقوم على الدعم الأمريكي غير المشروط بل والعقائدي، ليس في مأمن من هذه التغيرات وهو لن يحقق الانتصار بالتالي. بل إن ارتباك واشنطن وتخبط ترمب من مواقف عدة حول الصين وإيران وحتى أوكرانيا وغزة، وعجزها عن فرض حل سياسي شامل، يكشف هشاشة هذا المشروع الذي يعتمد كلياً على قوة إمبراطورية تتآكل تدريجياً اليوم وسط أجواء أوروبية وآسيوية جديدة تجاهها بعد إعلان الحروب التجارية.
غزة، زمن المقاومة في مواجهة زمن الأفول
وسط هذا المشهد وما يرافقه من أزمة الحركة الصهيونية والمجتمع اليهودي في إسرائيل من عدم القدرة بالدفاع عن سرديتهم أمام العالم التي تتوارى اليوم. تبقى غزة حالة استثنائية، فهي ليست مجرد جغرافيا محاصرة، بل معيار أخلاقي وسياسي لعالم ينزلق رسميا منه نحو صمت ونفاقٍ علني، وتواطؤ وقح، أمام تعاظم تضامن شعوب العالم وحركاتها التقدمية من جهة أخرى. وإذا كانت المبادرة المصرية تُقَدم اليوم كمخرَج مؤقت، فإنها قد تفتح مجالا لإدخال المساعدات ووقف المذبحة، لكنها لا توقف المشروع العدواني في جوهره والمتعلق بكل فلسطين وحقوق شعبنا ومنع إقامة الدولة أولاً.
الواقع الفلسطيني أمام ذلك
غير أن الثابت الوحيد في هذا المشهد هو إرادة الصمود وحجم تضامن الشعوب. فرغم النزيف، ورغم انعدام التوازن العسكري، تثبت غزة أن الشعوب قادرة على البقاء وعلى امكانية زلزلة سرديات الهيمنة، وأن سلاح الوعي والصمود والمقاومة المتعددة الأشكال يشكلون معا مكامن قوة يتوجب البناء عليها، حين تستخدم للدفاع عن حق شعبٍ وكرامته أمام شعوب العالم.
ولكن في ظل هذه التحديات الكبرى، لا يمكن أن يبقى الواقع الفلسطيني في حالة انقسام دائم بين الفصائل ومحاولات تخطئة كلٌ للآخر وصراع حول مفاهيم الهزيمة والانتصار، فهذا ليس زمن المحاسبة. قد يخطئ أياً من كان مقاوما تحت النار، إلا أن ضرورة التقييم ومحاسبة الذات لها وقت آخر حينما تتوقف نار الإبادة ويجمع الكل الفلسطيني على ضرورات التقييم النقدي لمسيرة الكفاح. لكن اليوم هنالك حاجة ملحة لأن ترتقي حركة حماس إلى مستوى التحديات الراهنة والمتغيرات وفهمها، وتدرك أن الطريق نحو دحر الاحتلال لا يمر عبر حروب بقرارات منفردة أو المصالح الحزبية أو الأيدولوجية دون المصلحة الوطنية.
في هذه اللحظة الحاسمة، يجب على حماس أن تُقدّم مصلحة الشعب الفلسطيني العليا على أي اعتبارات أخرى، وأن تقبل فوراً الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية وفق ما وافقت عليه في "بكين" وأن تتشكل حكومة تحظى بالتوافق الوطني قادرة على مواجهة التحديات دون الاعتماد على سراب الوعود الأمريكية أو تهديداتها، والشروع في التحضير لانتخابات عامة على قاعدة أن الشعب هو مصدر السلطات. فالمنظمة هي العنوان التي طالما مثلت الكيان السياسي الجامع للشعب الفلسطيني منذ تأسيسها واكتسابها المكانة التمثيلية أمام العالم وفقا لرؤيتها التحررية، دون إغفال الحاجة الوطنية الضرورية اليوم التي تتطلب استنهاضها المتكامل إلى جانب دور حركة "فتح" التي يجب أن تحافظ على شعلة انطلاقتها كقائد لمرحلة التحرر الوطني وليس كحزب للسلطة الوطنية التي يستهدفها الاحتلال من جهة أخرى.
التوافق الفلسطيني حول كافة المفاهيم في هذه المرحلة ليس رفاهية، بل ضرورة لمواجهة الاحتلال الذي يستمر في ابتلاع الأرض من خلال الضم والاستيطان. العمل ضمن إطار منظمة التحرير سيمكن الفصائل الفلسطينية من توحيد جهودها وتطوير رؤية مشتركة لمستقبل الكفاح الوطني الفلسطيني سنداً للقرار الوطني المستقل والجامع، بعيداً عن سياسة التفرد التي تغذي الانقسام وتُضعف من قُدرتنا على مواجهة التحديات حتى إنهاء الاحتلال أولاً.
لذلك، فإن العدوان على غزة، كما المبادرة المصرية اليوم، ليسا حدثين معزولين، بل جزء من لحظة تاريخية فارقة هي لحظة تراجع المشروع الإمبراطوري الأمريكي الاستعماري، وانكشاف التوسّع الصهيوني أمام وعي مقاوم فكرياً وسياسياً وميدانياً الذي تقف شعوب العالم تضامنا معه، يعرف أن الزمن قد لا يكون حليفه دائماً، لكنه ليس عدوّه قطعاً، فحركات التحرر تبني نفسها بتراكم تجاربها ومواجهتها ومعاركها وعلى فهم الواقع السياسي ووحدة وظروف شعبها الوطنية لحين انتصارها. وفي هذا السياق، لا يمكن لشعبنا الفلسطيني أن ينتظر الحلول من الخارج، بل يجب أن يوحد صفوفه داخليا، ويخوض المعركة معا في إطار مشروع وطني تحرري ديمقراطي واحد، تحت مظلة منظمة التحرير كجبهة وطنية واسعة صاحبة الولاية القانونية بقرار دولي وفق رؤية وأدوات واضحة تستوعب كل فئات المجتمع الفلسطيني وخاصة الشباب منهم في إطار فهم استراتيجي لمقاومة شعبنا نحو حريته.
الجدلية التاريخية وصراع الأضداد
الإمبراطورية الأمريكية اليوم التي تعيش ظروف مشابهة لما قبل أيام الحرب العالمية الثانية وصعود الفاشية، رغم سطوتها وإمكانية قيامها بإشعالها حروب جديدة قد تصل إلى أزمة عالمية، تواجه تصدعات داخلية وضغوطاً خارجية من قوى صاعدة تنازعها الهيمنة. وهكذا، تدخل في مسار التاريخ الحلزوني آخذة دولة الاحتلال معها التي تقاتل اليوم حتى طواحين الهواء، حيث لا تسير القوة في خط مستقيم، بل تمر بمراحل من الصعود والانكماش، لتفسح المجال أمام متغيرات وأمام وقائع نظام دولي جديد يكون أكثر تعددية وأقل خضوعاً لمنطق الهيمنة الأحادية والاستعمار واضطهاد الشعوب.