كيف يوتّر "الحزب" العلاقات الفلسطينية-اللبنانية -المسيحية مجدداً؟

بقلم: دنيز عطالله

لم تتمكن الحرب في الجنوب من أن تخنق الأصوات المتعددة في مقاربة الواقع السياسي والأمني والاقتصادي. فـ"حرب الإسناد والتضامن" تحولت إلى ما يشبه حرب استنزاف تبدو آفاقها ضبابية ومقلقة. سهّل ذلك لأصوات كثيرة لأن "تعلو على صوت المعركة"، وأن تسأل عن جدواها، طالما أن أدوات مساءلة حزب الله، الذي قرر مساندة غزة غير ممكنة.
فائض القوة وفائض الإسناد
بالنسبة إلى كثيرين في لبنان، أنتج "فائض قوة" حزب الله "فائض إسناد" لغزّة لا تزال تُطرح اسئلة كثيرة حول تأثيره وإيجابية مردوده على لبنان وأهله، كما على غزّة وأهلها. هو سؤال ظرفي يُعطف على السؤال الدائم: كيف لحزب أن يقرر لوحده خوض حروب في لبنان وخارجه ويحمّل البلد تداعيات قراره؟

يختلف حجم تضامن اللبنانيين مع غزّة باختلاف انتماءاتهم الطائفية والحزبية، وما تراكم من تاريخ معقد من التعاطف والحساسيات والحروب. تدين جميع الأحزاب اللبنانية ما يتعرض له الفلسطينيون وتتعاطف مع معاناتهم. لكنّ الذهاب إلى الحرب إسناداً لغزة، تحت أي مسمى وعذر، لا يلقى الإجماع نفسه. فتنقسم المواقف بين "أحزاب الممانعة" والقوى السياسية التي تدور في فلك حزب الله، وبين أحزاب المعارضة وبعض القوى السياسية الأخرى.

وبين سياسة القوة التي يتبناها حزب الله، وقوة السياسة التي يتمسك بها معارضوه، أضيف عنوان جديد وخطير على عناوين الإنقسام اللبناني.

الفلسطينيون والمسيحيون اللبنانيون
زادت حدّة الأصوات ارتفاعاً على خلفية الاستغراب "كيف علينا أن ننتظر ما سيحصل بين حماس واسرائيل، كي نعلم مصيرنا.."، على ما يقول سامي الجميّل. وهو يضيف "كل بيانات حزب الله تقول أنه لن يقبل بالتفاوض وبحل المشكلة طالما القصف باق على غزّة، وطالما أن حماس لن تجد حلاً؛ ما يعني أن حزب الله يربط نفسه ويربطنا بحماس".

الجميّل يشدد "إننا مع الأطفال وحق أي شعب مظلوم بالعيش بكرامة. ولكن أن ندمّر بلدنا فهذا أمر آخر". وهو يؤكد: "إننا مع أن يكون للشعب الفلسطيني دولة. ولكن لن نقبل أن يدمّر بلدنا في سبيل أي بلد في العالم".

قد يكون كلام الجميّل الأكثر تعبيراً عن كيفية نظرة "البيئات المسيحية" إلى ما يحدث اليوم في غزّة. تختلف درجات التعاطف والاهتمام. لكنّ صفحة الكراهية وتداعيات الاقتتال طويت لدى معظم المسيحيين، من دون أن يعني ذلك التعميم طبعاً. ويمكن في بعض الأوساط، سماع الانتقادات أو اللامبالاة تجاه كل ما يحدث على خلفية "ما نسينا شو عملو فينا"، خصوصاً عندما قامت بعض المجموعات الفلسطينية المسلحة بعمليات من الجنوب مؤخراً ضد اسرائيل.

قد لا يكون من السهل على شعوب غارقة في مآسيها اليومية المتنوعة، أن تعيد قراءة تجاربها ومقارباتها السياسية ومغامراتها العسكرية. هو "ترف" لأيام السلم والاستقرار السياسي والاقتصادي وتراكم التطور الاجتماعي.

رفقاً بالضحيتين
ومع ذلك، حاول الفلسطينيون واللبنانيون بلسمة جراح اقتتالهم. وخطاب الجميّل وتعاطفه مع الحق الفلسطيني -البديهي المفترض لدى بعضهم أو القاصر عن المطلوب لدى بعضهم الآخر- هو في الواقع، نتيجة مسار من المصارحة والمصالحة أرستها لقاءات مع ممثل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان عباس زكي، الذي زار يوماً بيت الكتائب المركزي مع وفد موسع، وصدر بعدها "إعلان فلسطين في لبنان".

جاء في الإعلان "يقتضي الإنصاف القول إن الوجود الفلسطيني في لبنان، بحجمه البشري والسياسي والعسكري، قد أثقل كثيراً على هذا البلد الشقيق ورتب عليه أعباء فوق طاقته واحتماله، وبالتأكيد فوق نصيبه المعلوم من واجب المساهمة في نصرة القضية الفلسطينة (دولة مساندة) الأمر الذي أصاب دولته واقتصاده واجتماعه الإنساني وصيغة عيشه إصابات بالغة ما عادت خافية على أحد. كذلك من الإنصاف القول إن التورط الفلسطيني في لبنان، على نحو ما شهدنا، وبخاصة في أثناء حروب 1975- 1982، إنما كان في مجمله قسرياً بفعل ظروف داخلية وخارجية أشبه ما تكون بالظروف القاهرة.
لا نقول هذا تنصلاً، ولا من قبيل نسبة ما جرى إلى "المؤامرة"، بل رفقاً بالضحيتين، وفتحاً لباب المراجعة، ومساعدة لأنفسنا جميعاً على تنقية الذاكرة. وأياً ما كان الأمر، فإننا من جانبنا نبادر إلى الاعتذار عن أي ضرر ألحقناه بلبنان العزيز، بوعي أو من غير وعي. وهذا الاعتذار غير مشروط باعتذار مقابل".

"كلمة شرف وعهد وفاء"
واصلت منظمة التحرير خطوتها الجريئة فقدمت، مع البعثة الديبلوماسية الفلسطينية، عام 2008 وثيقة للبطريرك الماروني يومها نصرالله صفير، بعنوان "كلمة شرف وعهد وفاء إلى إخوتنا المسيحيين في لبنان". وقد جاء فيها "أعربنا في (اعلان فلسطين في لبنان) عن خياراتنا وتوجهاتنا، بعد مراجعة لتجربتنا في هذا البلد المعطاء، وقد أردناها مراجعةً صادقةً وصريحة، فإننا نخصكم بكلمة الشرف هذه، ونعاهد أنفسنا وإياكم على: الاحترام الكامل لخصوصيتكم اللبنانية والمشرقية، وأن نكون معاً لدرء الأذى الذي يترصد لبنان العزيز، بوصفه كياناً مستقلاً ودولة سيدة. ومقاومة أي محاولة لحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان على حساب هذا الوطن، والعمل على شفاء النفوس وتنقية الذاكرة، وتعزيز روح المصالحة..".

لاحقاً، أصدرت شخصيات مسيحية بياناً قالت فيه "نود بدورنا أن نقرّ أنه خلال تلك الحرب الطويلة صدرت أحياناً عن بعضنا، نحن اللبنانيين المسيحيين، أعمال غير مبررة أدّت إلى سقوط ضحايا بريئة من إخواننا الفلسطينيين. هذا الأمر يؤلمنا ونود أن نعتذر عنه، سائلين الله أن يلهمنا التعويض، ما أمكن، عن كل ظلم اقترفناه".

حينها رحّب زكي "بتبادل الاعتذار الذي يعبر عن احترام الفلسطينيين اللبنانيين، وكذلك احترام اللبنانيين لإخوتهم الفلسطينيين، فضلاً عن الإقرار بقدسية قضية كل من الشعبين الذين تعرضا للقهر والمعاناة لفترة طويلة من الزمن بسبب الخرائط السياسية المفروضة على المنطقة".

لعنة سيزيف
احتاجت هذه المراجعة سنوات من الحروب القاتلة والباردة وأعداداً من الضحايا وندوباً عميقة في الجسمين اللبناني والفلسطيني. وإذا كان الأكثر علانية وتداولاً، لاعتبارات يطول شرحها، هو الصراع المسيحي-الفلسطيني، فالصراع الشيعي-الفلسطيني، الذي لم يبدأ عام 1985، ترك بدوره الكثير من الندوب ورسّخ الصراع السني-الشيعي، وإن كان يجري التعامي عنه والتغاضي عن حساسياته العميقة.

لذا، فإن معركة "الإسناد والتضامن"، التي لم تأخذ في حسبانها موازين القوى، على اعتبار إننا "ننتصر بالنقاط وليس بالضربة القاضية"، كما قال السيد نصرالله، ولا مصلحة لبنان وقدرته على التحمّل، ولا تملك القدرة على التحكم  بمسار "الإسناد" وتاريخه، لم تأخذ في حسبانها، بشكل خاص، واقع هشاشة الإجماع اللبناني وندوب جراحه الكثيرة، والمحاولات الجديّة، والشكلية، لمداواة بعضها، وفي طليعتها، صدق التعاطف والتأييد للقضية الفلسطينية، وأن يكون لبنان "دولة مساندة" حقيقية لفلسطين، في الموقف والمبادرات والمحافل الدولية وفي الإعلام والتأثير في الرأي العام الدولي.

عاد اللبنانيون إلى مربعات قلقهم الأول، وحذرهم الأول في أن ينجروا مجدداً إلى"حروب الآخرين" وحساباتهم، فيخرج إلى سطح علاقاتهم أسوأ ما في انقساماتهم وصراعاتهم. وعلى الطريق، يكرر الجميع الأخطاء نفسها ويكاد يُستعاد الخطاب نفسه. هي على الأرجح لعنة  "سيزيف" اللبناني الأبدية.

 

عن موقع المدن

Loading...