ربما بعض المتغيرات التي حدثت بالمشهد السياسي العربي بالسنوات الأخيرة جعلت الأنظمة العربية ضائعة وتائهة ليس لديها بوصلة استراتيجية، أثرت على خياراتها وتوجهاتها، البعض يرى في إسرائيل حليف استراتيجي والخطر الرئيسي هو إيران، والبعض يتحدث عن الخطر التركي، والبعض يرى المعارضات السياسية الداخلية الأكثر خطورة خاصة بعد موجه ثورات الربيع العربي، فسادت خلال السنوات الأخيرة لغة تحت عنوان بلدي أولاً، مصر أولاً، السعودية أولاً، الأردن أولاً، وو، وانتهى الأمر بإسرائيل أولاً وأخراً.
كيف يمكن لعالم يدعي الديمقراطية أن يناقش بالنيابة حق تقرير مصير شعب يرزح تحت الاحتلال، في غزة لا أحد يعبأ بالجثث ورائحة الموت التي تملأ المكان دون أن تعلو الأصوات لوقف المذبحة، ألم تجعل الهستيريا الدموية، العالم يستشعر الخطر الذي تشكله عصابات تقترب أكثر فأكثر من الأزرار النووية؟!، خاصة أن المأزق الإسرائيلي السياسي والعسكري، يزداد حدة يوماً بعد يوم، أزمات وانشقاقات في البيت الداخلي من جهة، عزلة خارجية، والفشل في تحقيق أهداف الحرب رغم زلزالهم في غزة من جهة أخرى، ربما لأنهم من صَنع الدولة العبرية في منطقة تتمتع بحساسية جيواستراتيجية عالية، وقابلة جداً للانفجار.
مناقشة مصير الشعب الفلسطيني بالقمة الثلاثية الفرنسية المصرية الأردنية، بعيداً عن الطرف الفلسطيني، هي افتراضات إسرائيلية، فإسرائيل تفترض وتضع خطط، وعلى العالم أن يصادق عليها، ويقبل بها، لاسيما، أن هذه الخطط لا تتطرق إلى مستقبل القضية الفلسطينية، بل وتقزم تطلعات الشعب الفلسطيني، وتكرس فصل غزة وتبقيها تحت الهيمنة الإسرائيلية، قمة ماكرون "الصبي الأمريكي"، بالتزامن مع لقاء نتنياهو وترمب، أكد دعم الخطة المصرية "برؤيتها لليوم التالي، ومن يدير غزة"، وتعهد بتوفير غطاء أوربي لمواجهة الرفض الأمريكي الإسرائيلي لها، لتختفي الأنظمة العربية وراء الموقف الفرنسي لرفض التهجير، لكن الفلسطينيين بحاجة إلى الغطاء العربي قبل الحديث عن غطاءات أخرى، آلا يذكرون أن فرنسا قادت حرباً ضد مصر من أجل إسرائيل عام 1956، وزودتها بالتكنولوجيا النووية، فلم يكن بالإمكان أن تترك اليهود لمصيرهم مرة أخرى، بالإضافة إلى أن الخطة المصرية لم تعد سوى حبراً على ورق رفضتها إسرائيل من اليوم الأول ولم تعيرنها أمريكا أي اهتمام، فقرار ترمب راسخ بخصوص غزة، وهو متأكد من أنهم "سيفعلون"، ويدرك أن لديه الكثير للضغط على الطرف العربي، ولكن يؤرقه تماطل نتنياهو في تنفيذ المهمة، مع العلم أن إسرائيل لا تنفرد باتخاذ قرارات استراتيجية دون الرجوع لربيبتها أمريكا والغرب، وفي الأغلب، أنها على دراية كاملة بالهجمات الإسرائيلية على غزة وتمولها.
لاحظنا مواقف الرئيس الفرنسي من عملية طوفان الأقصى، ومن المجازر التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني التي أعقبت ذلك، تشدد وتراجع وكلام مزدوج، ليخرج ماكرون لنا بلقاء باريس، بعد فترة وجيزة من الحرب، "طبعاً قطر تصدرت المشهد التفاوضي"، اطارها "مسودة أمريكية"، بمشاركة رؤساء الأجهزة الأمنية الأمريكي والإسرائيلي والمصري والقطري، بشأن التهدئة في غزة ووقف اطلاق النار وتبادل الأسرى، لقاء باريس مدفوع بالحاجة الماسة لفرنسا إلى الاستثمارات الضخمة وإلى امدادات الطاقة، وتوزيع حصص الغاز المقابل لشواطئ غزة، لم يكن حينها جدية في انهاء كوارث الحرب، وإنما اختزال المفاوضات بالرهائن الإسرائيليين، وهذا ما أشار إليه ماكرون: "أن اطلاق سراح الرهائن أولوية مطلقة بالنسبة لباريس"، السيناتور جيلبير روجيه استبعد أن تكون مسألة حل الدولتين، داخل الغرف المغلقة في الاليزيه، على جدول الأعمال، فكيف نرى ماكرون اليوم يناور على الاعتراف بدولة فلسطينية!، ما الدافع وما هو الثمن، وماذا لو تساءلنا عن سبب كون ماكرون إسرائيلياً، أكثر من الإسرائيليين، وأمريكياً، أكثر من الأمريكيين؟!، وهو المعترض على السياسة الأمريكية اتجاه أوروبا، داعياً إلى إنشاء جيش أوربي مستقل، حتى إذا ما اندلعت حرب أوكرانيا، وحرب غزة، نراه تجاوز البريطانيين بدور الظل للأمريكيين، وبدور المنقذ في الشرق الأوسط، خوفاً من أن تنفلت الأمور من يديه.
ازاحت أمريكا وحلفائها الغربيين عموماً وفرنسا بالأخص، القناع عن سياستها المنحازة لإسرائيل سواء بالدعم العسكري، واللوجستي الغير متناهي، بحربها الطاحنة ضد المدنيين في غزة، لا بل، وكانت وراء افتعال التوترات في المنطقة العربية لتبقى رهينة الصراعات العبثية، للاستئثار بالثروات النفطية، وللحيلولة دون نشوء قوة تهدد إسرائيل، فأمن إسرائيل أمر غير قابل للتفاوض ولها حق الدفاع عن النفس متجاهلين الانتهاكات التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني.
فرنسا تسير على خط موازي لأمريكا، تسعى إلى قيادة الموقف الأوروبي، ليكون لها مكاناً في المشهد الدبلوماسي الاقليمي، وأن يكون لها طرف ما في التهدئة على الرغم من نفوذها المحدود على أرض الواقع، لم يكن لها صدى أو تأثير على الأحداث، رغم أن فرنسا من الخمس الدائمين في مجلس الأمن، صوتت لصالح قرارين بشأن وقف اطلاق النار في غزة، لكنها عجزت على الضغط على أمريكا كيلا تستخدم الفيتو ضد أي قرار لوقف اطلاق النار، فالموقف الفرنسي مستضعف، وفقد أي تأثير له بعدما وضع ترمب القارة العجوز أمام أزمة البقاء واللابقاء بالصدمة الاقتصادية، وفرض التعريفات الجمركية بمثابة اعلان حرب على العالم كله أعداء وحلفاء.
غياب الارادة العربية والرؤيا العربية المشتركة أفرزت موقفاً عربياً هشاً و"غير كافي"، الطرف العربي يرفض المخطط الإسرائيلي الأمريكي بحق الشعب الفلسطيني، يصدر البيانات والمواقف لاستنكار سياسة التهجير، ويعقد القمم و"لكنه غير كافي"، ضعف، عجز، شعارات، ربما اكتفوا بالضغط والحراك الدبلوماسي؟!، ماذا فعلت مصر، السعودية والدول العربية عامة لمنع التهجير، ولمواجهة المشروع الإسرائيلي، المشروع ينفذ بالقوة العسكرية واستخدام أسلحة أمريكية محرمة دولياً، لماذا لم تفرض الدول العربية عقوبات اقتصادية على إسرائيل وأمريكا، سحب استثماراتها التي تقدر بالمليارات لنصرة الشعب الفلسطيني، فالسلاح الاقتصادي يضاهي قوة السلاح الحربي، لماذا لم تقايض الدول الموقعة على الاتفاقيات الابراهيمية، علاقاتها الدبلوماسية بحماية الفلسطينيين والدفاع عن فلسطين، فكان تطبيعاً مجانياً، مصر لديها أكبر جيش في المنطقة بعد تدمير الجيش العراقي والسوري، مهددة في أمنها القومي، ولكنها عاجزة، ماذا تنتظر حتى يتم تدمير جيشها، العالم العربي ليس ضعيف ولديه الكثير من الامكانيات، أهمية جيوسياسية وكتلة بشرية مهمة، يمتلك موارد ويمتلك قدرات كبيرة، لديهم أوراق كثيرة فاعلة ومؤثرة، لكنهم لا يستخدمون ما لديهم من موارد وامكانيات، فالبوصلة العربية مضطربة، ولا تسير بالاتجاه الصحيح، ألم يشن ترمب حرباً اقتصادية على العالم وعلى الصين، لما لا نحذو حذوه؟!.
تساؤلات وغصات، لكن مهما كانت نتائج هذه القمم واللقاءات، في اطارها الاقليمي السياسي، لا تتعدى الاتفاق على الصعيد الانساني، وادخال المساعدات لشعب تضور جوعاً، يستخدمون معاناته ورقة تفاوضية لإحلال السلام الموهوم، الذي لا يمكن لمنطق الاحتلال وبنيته المتسلطة أن تقبلان به، فالمجازر المروعة على شعب أعزل، تؤكد ما هو ماضيه به إسرائيل، فالقرار الأساسي يبقى لها، وقد كرر ذلك نتنياهو، "أياً تكون الاتصالات فالحرب سوف تستمر"، فالمعركة وجودية، والأمن الاستراتيجي لإسرائيل فوق كل اعتبار، ولكن الحل سيفرضه الشعب الفلسطيني، ترمب ونتنياهو، انتظروا ما هو أشد هولاً.