الحرب في غزة... ودولتان في وطن

 

 

 

 

للحرب فصول أخرى، حتى وقف إطلاق النار فتلك ليست النهاية، استجماع الإنجازات العسكرية وترجمتها إلى رصيد سياسي مرحلة أخرى في الحرب، وتعقيدات تلك المرحلة لربما أكثر بكثير من مرحلة الحرب المباشرة بالسلاح.

حرب السابع من أكتوبر تتلخص مراحلها الأولى في هجوم السابع من أكتوبر بما حملته من توظيف عنصر المفاجئة والانهيار الدراماتيكي للقوات الإسرائيلية، تلا ذلك حرب إبادة في غزة وتطهير عرقي في الضفة بهدف واحد ووحيد وهو التهجير.

حتى اللحظة لا نستطيع القول إن النتائج واضحة، وكلا طرفي الحرب حقق نقاطاً يعتقد أنها لصالحه، وكلا الطرفين يستخدم كل طاقته لتثبيت وتعزيز ما يعتقد أنها نقاط إيجابية لصالحه، وتستمر الحرب بالأسلحة وبطرائق أخرى.

كلا طرفي الصراع يعيش أزماته ويكابر، إسرائيل مجتمع يتمزق تماماً، مثقل بأعباء اقتصادية، جيش متعب حتى العجز عن استمرار القتال، أزمة اقتصادية تتفاقم مع مؤشرات مقلقة  لهجرة  رأس المال الصناعي، أزمة أخلاقية لترك المحتجزين  في الأسر، والأهم يفقد اليقين الوجودي وأمل المستقبل المستقر، على الجانب الآخر الفلسطينيون يتعرضون لأبشع جرائم الإبادة الجماعية في تاريخهم، قطاع غزة دمر بشكل شبه كامل، التطهير العرقي في الضفة يتواصل، وانقسام سياسي يتعمق، وأكثر من ذلك مخاطر الضم تتزايد ويترافق معها ما هو أخطر منها وهو مخاطر التهجير. هنا نجد أن المشهد بهذه الدرجة من التعقيد، طرفا الصراع ينزفان في حرب لا تبدوا في الأفق نهايتها واضحة. ولكن كلا الطرفين لا يملكان سوى العض على الجراح والاستمرار لأن إعلان التوقف يعني الهزيمة بأثر رجعي وهذا لا يحتمله أي طرف.

ولأن هذه الحرب امتداد لصراع عمره مائة عام وأكثر، ولأنه يحتكم للمعادلة الصفرية، بمعنى أن نتائج كل جولة منه هي مقدمة لجولة جديدة وبدون أي حسم، ولأنه يقوم على فلسفة أن كل جولة تعمق الأزمة أكثر مما سبقها، لكل تلك الأسباب فإن الخروج من الحلقة المغلقة لن يتم إلا بانتهاج طرق أخرى للتعاطي معه.

بالتأكيد فإن السلام القائم على العدالة النسبية هو المآل الأخير القادر على كسر دائرة العنف المأساوية، لا طريق آخر، والجميع يدرك ذلك، السلام القائم على موازين القوى فقط تم تجربته، تجربة اتفاق أوسلو كانت مثالاً حياً على ذلك، فشلت التجربة، سلام يعكس الرغبة في اخضاع طرف لصالح الطرف الآخر حتماً ستفشل، وحتى لو تم فرضها بالقوة فإنها ستفشل في النهاية، ستفشل عندما يتم تغيير في موازين القوى، هذا ليس افتراضاً، هذا استخلاص لتجارب حروب في مناطق أخرى، فرض تقسيم ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، إرادة القوي المنتصر فرضت ذلك ، لكن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي تم وبشكل دراماتيكي هدم سور برلين وأُعيد توحيد ألمانيا.

 هذا أمر طبيعيٌ، ولهذا فإن سلام يتجاهل مصالح ستون بالمائة من الفلسطينيين وهم اللاجئون سينهار بالتأكيد عند أي تغيير في ميزان القوى، سينهار تحت رغبة الأغلبية الفلسطينية في إنهاء تشردهم، أليس هذا منطقي؟!!! إن سلاماً كهذا لن يعدوا أكثر من هدنة بين حربين.

لكن الارتداد من النقيض إلى النقيض ليس هو الطريق الصحيح، الانتقال من حل الدولتين الكلاسيكي إلى حل الدولة الواحدة، دولة ديمقراطية، سيكون قفزة في المجهول، بل أكثر من ذلك، سيكون قفزاً عن معطيات الواقع والتحليق في سماء الأحلام الجميلة، هذا بالنسبة للفلسطينيين، أما بالنسبة للإسرائيليين سيكون أسوأ من أي كابوس، فالدولة الواحدة نهاية لحق تقرير المصير بالنسبة للإسرائيلي، وهو خطر يهدد بسيطرة الديمغرافيا الفلسطينية، إنه خطر ليس آنياً فقط بل ومستقبلي أيضاً. لهذا فإن هذا الحل يشكل حلماً فلسطينياً وكابوساً إسرائيلياً، ولهذا فإنه إن لم يكن مستحيلا فهو بعيد المنال إلى حد الاستحالة.

لكن ما بين حل الدولة الواحدة وحل الدولتين هناك مساحة، مساحة واسعة تحتمل التفكير خارج الصندوق لإيجاد سياق سياسي لحل مختلف، حل يأخذ ميزان القوى في الاعتبار لتحقيق عدالة نسبية يخرج فيها الشعبان بحل سياسي ينتصران فيه معاً على معادلة القتل المتبادل والتدمير المتبادل. هذا ممكن، وهذا بالضبط جوهر وفلسفة رؤية دولتان في وطن واحد.

في التفاصيل هناك الكثير ليقال، ورغم أن الشيطان يكمن في التفاصيل إلا أن إيضاح المفهوم سيسهل فهم التفاصيل، والأهم فهم لماذا كانت التفاصيل بهذا الشكل، المفهوم العام لدولتين في وطن واحد أنها انتقلت كمفهوم من محاولة تغيير معطيات الواقع إلى مسار مختلف وهو التعاطي مع تلك المعطيات عبر إعادة ترتيبها بطريقة تحول التحديات إلى فرص، وتجعل من تلك المعطيات عناصر بناء لمستقبل مختلف بدل كونها عناصر تفجير وهدم وموت.

وبدون أمثلة لا يمكن فهم ذلك، القدس هي من أهم التحديات التي تواجه الحل السياسي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبسببها فشلت المفاوضات بين ياسر عرفات ويهودا براك في كامب ديفيد، والتداخل السكاني يمنع بشكل شبه مطلق إمكانية تقسيمها على طريقة رابين "نحن هنا وأنتم هناك" ففي كل حي تقريباً في القدس هناك فلسطينيين وهناك يهود، وأحياناً في ذات البناية يوجد يهود وفلسطينيين، رؤية دولتين في وطن واحد تقول بوضوح، القدس شرقيها وغربيها مدينة موحدة تحت سلطة أمنية خاصة وربما خارجية تتقاسم فيها الشعبان بالتساوي والمساواة السلطات المدنية وتشكل بوحدتها هذه عاصمة مشتركة للدولتين، يعاد توزيع الخدمات بطريقة عادلة، تكون الأماكن الدينية متاحة للشعبين باحترام، تكون مفتوحة للشعبين بدون إعاقة، تنحصر السلطة الأمنية بيد قوة دولية تتعاون مع قوة مشتركة. بهذا تصبح القدس نموذج للحياة المشتركة وفرصة للتقدم والتطوير، ويحقق كل من الشعبين رؤيته للقدس كمكان يوجد للشعبين مشاعر عميقة تجاهه دون أن يكون انتقاص لأي من الشعبين فيه. هنا نجد صيغة مختلفة نسبياً، تترك لكلا الشعبين الشعور بأنها مدينة موحدة ولهم فيها كل ما يشعرون به دون انتقاص ولكن دون أن يكون بنفي مشاعر ووجود الشعب الآخر.

الفلسفة المهمة التي تحكم تلك الرؤيا هي إزالة العوائق التي تعيق تطبيق الحل السياسي، ازالتها بمعنى تحويلها إلى عناصر طيعة تساهم في ترسيخ الحل ووضعها في سياق مقبول للشعبين، ولعل أهم تلك العوائق في الجانب الفلسطيني والإسرائيلي هما اللاجئين والمستوطنات، السياق الذي اتخذته دولتين في وطن واحد للتعاطي مع هاتين المسألتين يأخذ في الاعتبار الحقائق التالية: اللاجئين الفلسطينيين يمثلون حوالي ثلثي الشعب الفلسطيني وتجاهل مصالحهم يعني إبقاء تلك القضية كقنبلة موقوته تهدد بالانفجار متى سنحت الفرصة لذلك، وثانياً فإن وجود أكثر من نصف مليون مستوطن يشكل تحدي لأي حكومة إسرائيلية، إن القدرة على ترحيل مثل هذا العدد رغماً عن إرادتهم يكاد يكون مستحيلاً، وربما لا تقوى عليه أي حكومة حتى لو رغبت بذلك، وثالثاً أن الفلسطينيين من مواطني إسرائيل ويحملون الجنسية الإسرائيلية هم مواطنون إسرائيليون بكامل الحقوق وبدون تمييز ويتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة بما فيها الحقوق السياسية كمواطنين إسرائيليين. لهذا قدمت رؤية دولتين في وطن واحد معادلة مختلفة عن الحلول السابقة في التعاطي مع هذين الأمرين: من حق كل فلسطيني أيّا كان مكان سكنه أن يحمل الجنسية الفلسطينية سواء رغب في العيش في الدولة الفلسطينية أم لم يرغب، ثم تكون الحدود بين الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية حدوداً مفتوحة تسمح بحرية الإقامة والتنقل والعيش في كلا الدولتين بحقوق مدنية كاملة وبدون تمييز، على أن يمارس الفلسطينيون الذين يرغبون العيش في داخل دولة إسرائيل حقوقهم السياسية من انتخاب وترشيح في دولتهم الفلسطينية بينما يمارس الإسرائيليون الذين يرغبون في الإقامة في الدولة الفلسطينية حقوقهم السياسية من انتخاب وترشيح في دولتهم الإسرائيلية، ويحترم من يقيم في الدولة الأخرى القانون والنظام ومستعدون للإقامة في الدولة الأخرى تحت نظامها وقانونها وأمنها بدون أي تمييز. هذا ليس كل شيء، فالإقامة في البلد الآخر تعني الالتزام بقوانين ونظام البلد والعيش تحت سلطتها وأمنها في ظل حقوق فردية كاملة باستثناء الحقوق السياسية التي يمارسها كل في بلده التي يحمل جنسيتها. هذا الحل يجعل للإسرائيليين بما فيهم من يرغب من المستوطنين المقدرة على العيش في الدولة الفلسطينية كجالية يهودية ويجعل من الفلسطينيين بما فيهم اللاجئين المقدرة إذا رغبوا أن يعيشوا في إسرائيل كجالية فلسطينية، وبهذا يكون في الوطن الواسع مكان للجميع دون تمييز أو عنصرية أو التأثير على النظام السياسي لكلا الدولتين. وبهذا نكون قد أزلنا عقبتين كبيرتين من طريق السلام بين الشعبين، وأكثر من ذلك فإننا خلقنا فرصة لهذا السلام بأن يستمر حتى لو تغيرت موازين القوى.

إن هذا الحل يزيل مشاعر التناقض بين مفهوم الوطن ومفهوم الدولة، فكل البلاد مكاناً ممكناً للعيش لكلا الشعبين بينما كل شعب يحقق حق تقرير المصير المعبر عن طموحه الوطني في دولته المستقلة دون أن يغلق الباب أم الشعب الآخر من العيش أينما أراد ودون أن يحدث خدشاً في مشاعر الشعب الآخر تجاه كل الوطن.

 

 

 

 

 

كلمات مفتاحية::
Loading...