ما زال الاحتلال الاستيطاني الإحلالي يتمدد فوق أرضنا، وما زالت جرائم الإبادة والاقتلاع تُرتكب بحقنا، فيما باتت تشكل مظاهر محرقة القرن الحادي والعشرين، وسط صمت دولي وتواطؤ بعض الأنظمة أو اتباع سياسات الانتظار. ومع كل ذلك، ينكشف واقعنا الداخلي على مزيد من عدم الاستقرار وغياب الإستراتيجيات الواضحة، وابتعادنا، بوعي أو دون وعي، عن نصوص وثيقتنا الوطنية الجامعة، المتجلية في وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني.
وثيقة ليست كغيرها
ليست وثيقة إعلان الاستقلال مجرد بيان سياسي عابر، بل هي عقد اجتماعي سياسي أعلنه الرئيس المؤسس الخالد ياسر عرفات، بعد أن صاغه الشاعر الراحل الكبير محمود درويش بروح المقاومة والفكر الوطني والإنساني الجامع، أمام المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988 الذي أقره بالإجماع. لقد شكّلت الوثيقة منذ ذلك الحين مرجعاً أخلاقيا وقانونيا وسياسيا لشعبنا الفلسطيني، في ظل غياب دستور رسمي للدولة، يتوجب الاسترشاد به بهدف الحفاظ على ذاتنا وهويتنا الوطنية التي يستهدفها الاحتلال اليوم بكل مكوناتها الى جانب وجودنا ذاته.
بين النص والواقع
تنص الوثيقة على الالتزام بقيم العدالة الاجتماعية والمساواة، واحترام حقوق الإنسان والتعددية، والتمسك بالوحدة الوطنية والشرعية الدولية، والسعي إلى إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وديمقراطية لجميع مواطنيها على أن يكون الشعب مصدر السلطات فيها.
فهل نعيش اليوم وفق هذه المبادئ ؟
واقعنا يقول غير ذلك، فالانقسام القاتل لقضيتنا ومحاولات فرض الأمر الواقع، واستئثار البعض "بمكتسبات المواقع"، غياب الانتخابات، تراجع الحريات العامة، فصل السلطات، غياب الرقابة البرلمانية وأسس التشريع وأصوله وهيمنة مراكز القوى والنفوذ على المصير الوطني بدلاً عن الإرادة الشعبية، جميعها تُشكّل خروجاً صريحاً عن روح الوثيقة ومضمونها وتساهم في مساندة قوى الشد العكسي في وطننا الذي لا نملك سواه.
لمصلحة من يُغيب النص؟
السؤال الجوهري هنا هو، من المُستفيد من تغييب وثيقة إعلان الاستقلال؟
بلا شك ان الاحتلال هو أول المستفيدين، إذ يجد في الانقسام الفلسطيني والواقع الإقليمي الراهن فرصة لتوسيع مشروعه الاستيطاني الإحلالي وفرض "إسرائيل الكبرى" في وقت لا يمكن الوصول مع هذا العدو الاستئصالي الى أي تسوية سياسية بحكم الرؤية الصهيونية الاستعمارية السائدة. لكن ماذا عن الأطراف الداخلية؟ ألم تُستغل الانقسامات وغياب تنفيذ التوافقات احياناُ والتحالفات المرحلية الإقليمية أو الركض خلف سراب وعود الغرب وخاصة الأمريكية لتقويض المرجعية الوطنية الجامعة؟ ألا يُفترض أن تكون الوثيقة عقبة أمام المشاريع الغير وطنية التي لا تخدم معركة التحرر وإنهاء الاحتلال أولاً؟
نحو إعادة الاعتبار
إحياء وثيقة إعلان الاستقلال يجب أن يتحول إلى مشروع وطني شامل، يبدأ بإعادة قراءتها بعمق، والاعتراف بمدى ابتعادنا عن نصوصها، والكشف عن محاولات بعض الأطراف تقويضها تحت تأثيرات غير وطنية، ثم الالتزام بها كمرجعية سياسية وأخلاقية لنا.
وهنا يمكن للنخب الثقافية، والمؤسسات الرسمية والشعبية والأطر الوطنية، والجامعات، والحراكات الشبابية كما للمجلس المركزي، أن تضع الوثيقة في الواجهة اليوم، لا كأرشيف من الماضي بل كأفق للمستقبل، يعيد الاعتبار لمضمونها الوطني التقدمي والإنساني، ويمنع أي جهة من تجاوز بُعدها التاريخي وروحها المقاومة وتأثيرها على بنية المجتمع الفلسطيني بعيداُ عن الأصولية الفكرية، الدينية أو الفصائلية التي تهدد أسس الوحدة الوطنية الواسعة ووحدة مجتمعنا.
إن سؤال أين نحن من وثيقتنا الوطنية، لا يجب أن يبقى تساؤلاً إنشائياً، بل ينبغي أن يتحول إلى مُنبّه وطني، يدفعنا إلى مراجعات نقدية للذات دون خوف وتردد، وتجاوز الحالة الراهنة، والعودة إلى المبادئ التي منحت مشروعنا الوطني التحرري روحه الكفاحية العادلة، والتي حظيت بتضامن شعوب العالم وقواه التقدمية والتحررية المعادية للاستعمار.
ان هذا يستدعي العمل الجاد على استنهاض منظمة التحرير الفلسطينية والحفاظ على مكانتها خاصة الدولية التي اكتسبتها بفعل مسيرة الكفاح الوطني، باعتبارها الجبهة الوطنية التي ينبغي أن تعتمد أوسع قاعدة شعبية لا تقتصر على المحاصصة الفصائلية فقط، بل لتمثيل كافة قطاعات شعبنا من المستقلين الوطنيين والمجتمع الأهلي وخاصة من الشباب والمرأة، لقيادة مشروع التحرر الوطني. فما جدوى الثورة إن ضاعت بوصلتها؟ وما قيمة الوطن إن نسينا ما أردناه أن يكون؟
انعقاد المجلس المركزي، إعادة إنتاج أم مراجعة حقيقية؟
في ظل هذا الواقع، تأتي الدعوة لانعقاد المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في نهاية هذا الشهر، وفق جدول الأعمال المرفق بالدعوة، وسط تساؤلات جدية عن جدوى هذه الدورة وطبيعة مخرجاتها.
فهل ستكون مجرد إضافة كمية إلى سلسلة دورات سابقة لم تُنفذ قراراتها حتى اليوم؟ أم ستكون محطة نوعية لمراجعة وطنية حقيقية تستند إلى وثيقة إعلان الاستقلال واستحقاقات معركة التحرر الوطني والتحديات الناشئة؟ هل ستكون مناسبة لتكريس مراكز القوى والنفوذ التي نشأت في ظل الانقسام وحالة الجمود والانتظار؟ أم محاولة لإعادة تدوير النظام السياسي دون معالجة جذور أزمته وحلها؟ أم هل ستقتصر في أن تُمهد لترتيبات المرحلة المقبلة المسماة "ما بعد الرئيس"؟
أم أنها ستكون فعلاً خطوة نحو استنهاض وطني شامل، يُعيد ترتيب البيت الفلسطيني، ويعتمد استراتيجية ورؤية سياسية واضحة قادرة على تعزيز صمود شعبنا في مواجهة التحديات ومخططات الاحتلال الجارية وبالمقدمة منها وقف المحرقة، مقرونة ببرنامج نضالي وأدوات فاعلة؟
من الضروري أن تعكس المؤشرات والتحضيرات الجارية لانعقاد هذه الدورة للمجلس المركزي نوايا وحدوية صادقة ترتقي لمستوى أعادة بناء المشروع الوطني التحرري وتعريفه، على أسس المشاركة والشرعية والمساءلة ونقد الذات وموائمته مع المتغيرات الجارية بالنظام الدولي. فاستمرار النهج القائم في إدارة الأزمة دون التوجه لحلها، سيُكرّس مزيداً من العجز، ويُبقِي النظام السياسي عرضةً للتآكل والتشكيك، بدلاً من أن يكون رافعة قادرة على مواجهة التحديات والمتغيرات الإقليمية والدولية وخاصة المشروع الامريكي بالمنطقة.
إن الجهد الوطني المسؤول يجب أن يُوجه أساساً إلى معالجة أزمة النظام السياسي، دون أن يفتح الباب لخلافات داخلية لا طائل منها، خاصة في ظل تعدد الاجتهادات القانونية المتعلقة بإشكالية تفويض الصلاحيات بين المجلس الوطني والمركزي، وعلاقة ذلك بالنظام الأساسي لمنظمة التحرير بما له علاقة باستحداث مواقع أو تعديل نصوص.
إن اقتصار جوهر انعقاد هذه الدورة على هذا الجانب فقط رغم أهميته، بغض النظر عن الأسماء المتداولة، سيُبعدنا أكثر عن روح وثيقة أعلانا الاستقلال، ويزيد من أزمة النظام السياسي الذي يفترض ان يقوم على أساس وحدة الأرض والشعب والقضية الوطنية، وبما يعيد تعريف دور السلطة الوطنية الفلسطينية ومهامها وتعزيز شرعية النظام السياسي بأسس ديمقراطية بما يحمل من ثقافة مقاومة سياسية وشعبية وبإعادة تصويب عضوية المجلس الوطني الفلسطيني ودعوته للانعقاد لحين التمكن من أجراء الانتخابات اللازمة لتكوينه وفق الأصول، كما وأجراء انتخابات كافة الهيئات الوطنية التمثيلية، من أجل منع فرض التدخلات الخارجية تحت شعارات "التجديد" و"السلطات المتجددة" أو الترويض السياسي على حساب استقلالية القرار الوطني ووحدانية التمثيل التي تستدعي التطور والتغيير والاستنهاض لمواجهة تلك المحاولات في تقويض تراكم مكتسبات حركتنا الوطنية منذ نشأتها في هذه المرحلة المفصلية من تاريخنا.