لا يمكن المرور مرور الكرام على تشكيل «لجان فنية» بين تركيا وإسرائيل من أجل تخفيف حدّة التوتر بينهما في سوريا. اعتمدت إسرائيل في الفترة الأخيرة لحظة تصعيدية في التعاطي مع الوجود التركي في سوريا، خصوصاً بعدما باشرت أنقرة تحركات يفهم منها أنّها تنوي إقامة قواعد عسكريّة في هذا البلد العربي ذي الأكثريّة السنية والتركيبة المتنوعة.
من الواضح أنّ التفاهمات التي يمكن أن تحصل بين تركيا وإسرائيل مرتبطة بالكلام الإيجابي الذي صدر عن الرئيس دونالد ترمب، تجاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. حصل ذلك في أثناء استقبال ترمب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي يبدو أنّّه فهم الرسالة الرئاسية الأميركية التي فحواها أنّّه مطلوب ترطيب الأجواء مع تركيا.
لم يبخل ترمب بالإشادات ذات الطابع الشخصي بأردوغان. ذهب إلى حد تهنئته على إحداث التغيير الذي شهدته سوريا، وهو تغيير متمثل في زوال الحكم العلوي للمرّة الأولى منذ العام 1966 عندما استولى الضابطان صلاح جديد وحافظ الأسد على السلطة. كلما مرّ يوم يتبيّن كم أن هذا التغيير مهمّ على صعيد المنطقة كلّها، خصوصاً أنّّه وجه ضربة قويّة للمشروع التوسعي الإيراني الذي اعتمد على «الهلال» الذي يربط طهران ببيروت مروراً ببغداد ودمشق.
ستساعد التهدئة بين سوريا وتركيا في مزيد من العزل لإيران التي دخلت في مفاوضات مع الولايات المتحدة عن طريق سلطنة عُمان دفاعاً عن نظامها. أكثر من ذلك، يأتي تخفيف حدة التشنج بين تركيا وإسرائيل في وقت لا يزال الوضع اللبناني مثيراً للاهتمام والقلق إلى حد كبير وبشكل متزايد، خصوصاً أنّ إيران لم تقتنع بعد بأنّه لا مستقبل لـ«حزب الله» وسلاحه في ضوء فقدانها سوريا. يثير الوضع اللبناني الاهتمام والقلق من زاوية احتلال إسرائيل لأراض لبنانية وما ينطوي عليه ذلك من احتمالات حصول تصعيد عسكري.
لا يزال هناك، بكلّ أسف، رهان إيراني على بقاء سوريا معبراً إلى لبنان، علماً أنّ هذا الموضوع صار محسوماً. صار محسوماً بعدما خرجت سوريا من «الهلال» نهائياً، وهذا ما ترفض «الجمهورية الإسلاميّة» أخذ العلم به وبالنتائج المترتبة عليه. هل يقنعها التطور الذي طرأ على العلاقات التركيّة – الإسرائيلية بأنه لا خيار أمام «الجمهوريّة الإسلاميّة» غير التخلي عن أوهامها اللبنانية والسوريّة في آن؟
عاجلاً أم آجلاً، ستكتشف إيران أنّ التغيير الذي حصل في سوريا من النوع الذي لا عودة عنه وذلك بغض النظر عن بقاء أحمد الشرع، وفريقه في السلطة أو عدم بقائه.
في خريف العام 1970، استولى حافظ الأسد، على السلطة وتفرّد بها. كان هدفه الدائم وضع اليد على لبنان تحت شعار «شعب واحد في بلدين». في الواقع، لعب الأسد دوراً كبيراً في تفجير لبنان منذ ما قبل ذلك اليوم المشؤوم، في 13 أبريل 1975. أشعل حافظ الأسد الوضع في لبنان عن طريق إغراقه بالسلاح. قبل العام 1975، سلّح الفلسطينيين وسلح ميليشيات مسيحية معادية للمنظمات الفلسطينية التي لم يكن لديها من هدف سوى نشر الفوضى في كلّ لبنان. عمل كلّ ما يستطيع من أجل تبرير الحاجة إلى سيطرة الجيش السوري على الأراضي اللبنانية بحجة حماية المسيحيين أحيانا وضبط المنظمات الفلسطينية المسلحة في أحيان أخرى. نجح في ذلك عبر وزير الخارجية الأميركي هنري كيسينجر، الذي حصل على ضوء إسرائيلي سمح بدخول الجيش السوري إلى لبنان في العام 1976.
من يقنع إيران التي أرسلت الدفعة الأولى من «الحرس الثوري» إلى لبنان بواسطة حافظ الأسد في أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف العام 1982 بأن سوريا تغيّرت، بل تغيّرت جذريا؟
تغيّرت سوريا إلى درجة صارت ساحة لصراع تركي – إسرائيلي تريد الولايات المتحدة الحؤول دون تفاقمه. دخلت سوريا ومعها لبنان مرحلة جديدة مختلفة عن الماضي. تطرح هذه المرحلة أسئلة عدّة ثابت فيها أمر واحد وحيد هو أنه لا عودة للهيمنة الإيرانية على لبنان وسوريا. هذا ما أثبتته الأحداث الأخيرة التي شهدها الساحل السوري في السابع والثامن من مارس الماضي. إذا كان من درس يمكن استخلاصه من هذه الأحداث، التي شهدت تمرداً علوياً قمع بقسوة، فهو درس على إيران التعلّم منه. فحوى الدرس أنه لا عودة لـ«الحرس الثوري» إلى سوريا من جهة وأن مستقبل سوريا رهن بإيجاد صيغة تعايش بين تركيا وإسرائيل... وإن برعاية أميركيّة. لن تقبل إسرائيل بأي شكل حلول تركيا مكان إيران في سوريا.
لا بد من الآن طرح أسئلة تتعلّق بمستقبل العلاقة التركية – الإسرائيلية وما إذا كان في الإمكان تفادي صدام بين الجانبين في سوريا نفسها، وهو صدام ستكون له من دون شكّ انعكاسات سلبية على لبنان. يبدو أن إدارة ترمب باتت تعي أبعاد أي صدام تركي – إسرائيلي في سوريا وانعكاساته على المنطقة كلّها، بما في ذلك لبنان، البلد المغلوب على أمره.
من المفيد مراقبة المسؤولين اللبنانيين، على كلّ المستويات، لما يدور في سوريا. من المفيد أكثر العمل على جعل كل من يعنيه الأمر، خصوصاً «حزب الله»، استيعاب أنّه لا عودة لإيران لا إلى سوريا ولا إلى لبنان. إضافة إلى ذلك كلّه، من المفيد مراقبة تطور العلاقة التركيّة – الإسرائيلية في وقت ليس أمام إسرائيل سوى التعاطي مع الاعتراف بوجود علاقة في العمق بين الحكم السوري الجديد وتركيا. كيف ستنظم إدارة ترمب العلاقة بين الجانبين. هذا السؤال بين أسئلة كثيرة تطرحها مرحلة ما بعد خروج إيران من سوريا... ومن لبنان أيضاً.