تحاول إسرائيل في هذا الظرف- وبعد تقويضها قوة ومكانة حركة "حماس" و"حزب الله" وانهيار النظام السوري، وإنهاء أو تحجيم نفوذ إيران في بلدان المشرق العربي- فرض واقع استراتيجي جديد في تلك المنطقة، سياسيا وأمنيا، بل وحتى التدخل لفرض نوع من أنظمة هشّة فيها، مستغلة تداعيات ما بعد "طوفان الأقصى"، بما في ذلك الدعم الأميركي اللامحدود لها.
على الصعيد السياسي تتوخّى إسرائيل فرض ذاتها كدولة إقليمية أقوى، أو مهيمنة في الإقليم، ليس إزاء النظام العربي الضعيف والمفكّك فقط، وإنما إزاء الدولتين الإقليميتين الأخريين، أي تركيا وإيران، أيضا. وإذا كانت مشكلة إسرائيل مع تركيا تتعلق بتقليص الثقل السياسي والاقتصادي والعسكري لتركيا في سوريا الجديدة، فإن مشكلتها مع إيران تنبثق من إصرارها على تقويض برنامجها النووي والصاروخي، وتحجيمها خلف حدودها. أما في ما يتعلق بالفلسطينيين فإن إسرائيل تحاول شطبهم من المعادلات السياسية، وإجهاض أي كيانية فلسطينية مستقلة، وتعزيز الهيمنة عليهم من النهر إلى البحر.
ومن الناحية الأمنية، تسعى إسرائيل ليس، فقط، إلى إعادة الاعتبار لجيشها، أو شن حرب استباقية للحؤول دون تبلور أي قوة عسكرية في محيطها، ولكنها تحاول، أيضا، خلق مجال حيوي لها في سوريا لبنان، بعمق 60 كيلومترا، بما يشمل محافظات درعا والقنيطرة والسويداء في سوريا، وإلى حدود نهر الأولي، شمالي نهر الليطاني، في لبنان، مع إيجاد مناطق عازلة في غزة والضفة أيضا. وهذا ما يفسر الضربات العسكرية التي تشنها بين فترة وأخرى في البلدين المذكورين، كأنها في ذلك تؤسس لانتهاء الخيار العسكري في الصراع معها، على الصعيدين الدولتي والميليشياوي.
لكن إسرائيل على ما يظهر من إصرار حكومتها المتطرفة على استمرار الحرب، وطلبها نزع أو خفض التسلح في سوريا ولبنان وفي غزة والضفة، تتوخى أيضا استغلال الظرف الراهن، عربيا وإقليميا ودوليا، لإحداث تغييرات في مبنى الأنظمة المجاورة، بالاستثمار في التصدعات الطائفية في سوريا ولبنان، عبر تعميم خاصيتها، كدولة طائفية/يهودية، بحيث تغدو بلدان المشرق العربي على شاكلتها، الأمر الذي ينهي استثنائيتها كدولة يهودية في منطقة عربية، ولعل هذا هو المغزى من تبجّحها بـ"حماية الأقليات".
ومعلوم أن وجهة النظر هذه كانت دائما ضمن الترسانة الأيديولوجية لليمين القومي والديني المتطرف في إسرائيل، التي تفضي إلى تقسيم سوريا، ليس على الصعيد الجغرافي، فحسب، كما يعتقد البعض، وإنما على الصعيد الاجتماعي، أيضا، وهذا هو الأهم.
من الواضح أن إسرائيل تركز على سوريا أكثر من غيرها، في هذه المرحلة، بالنظر لأهميتها الجيوسياسية على مر التاريخ، ولأنها تمر بمرحلة انتقالية صعبة، وترزح تحت التركة الثقيلة التي تركها نظام الأسد، على كل الأصعدة والمستويات. بمعنى أن تلك الفترة هي أنسب ظرف لإسرائيل لإضعاف سوريا، كدولة وكشعب، والحد من قدرتها على اكتساب عوامل القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مستقبلا.
لنلاحظ أن إسرائيل تغطي تدخلاتها واعتداءاتها في سوريا، أولا، بالتخوف من صعود نفوذ الإرهاب والجهاديين. وثانيا، الحؤول دون صعود نفوذ تركيا، باعتبارها تضمر العداء لإسرائيل، كأنها تتحسّب لإمكان أن تحل محل إيران في ذلك. وثالثا، أن النظام السوري الجديد لا يظهر ما يفيد بالقطع مع العداء لإسرائيل، إلى الدرجة المطمئنة لها. ورابعا، استدراج سوريا إلى موجة التطبيع مع إسرائيل، وفقا للمعادلات والتطورات الجديدة في المنطقة.
مشكلة سوريا إزاء تلك التربّصات والتدخلات الإسرائيلية أنها منهكة وضعيفة، وثمة عوامل تفكّك فيها، وأن القوى الإقليمية التي كانت تنازع إسرائيل على الهيمنة غابت أو ضعفت، إذ إن إيران باتت معنية بالنجاة بنفسها، بعد كل ما حصل لكل أذرعها الميليشياوية، وهي تتعرض لضغط سياسي واقتصادي، كما لتهديد واضح بإمكان توجيه ضربة لها، تقصم ظهر برنامجها النووي والصاروخي.
أما تركيا، فرغم احتضانها أو دعمها القيادة السورية، فإنها لا يمكن أن تذهب بعيدا في تحدي السياسة الإسرائيلية، المدعومة أميركياً، فهي عضو رئيس في حلف "الناتو"، ثم إن اهتمامها بسوريا ينحصر، على الأغلب، في عدم السماح بتبلور كيان كردي مستقل إلى جوارها، وبحصر دورها في سوريا بالقوة الناعمة، وبالوسائل الاقتصادية، والبني التحتية، وحتى تدريب أجهزة الأمن وليس أكثر، بغض النظر عن الخطابات.
إزاء هذا الوضع تبدو الخيارات السورية محدودة، ومقيدة، إذ من التهور طرح الخيار العسكري، في واقع سوريا المتعبة والمنهكة والممزقة، والتي هي أحوج لاستعادة عافيتها، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فضلا عن عدم توفر إمكانياته بعد تدمير مقدرات الجيش السوري وبناه التحتية، وبعد انكشاف كل الشرق الأوسط، وصولا إلى إيران، إزاء يد إسرائيل الطويلة.
على ذلك فإن الخيار الممكن والأسلم بالنسبة لسوريا، إنما يكمن في تحصينها من جهتين، أولا، بناء الدولة، كدولة مؤسسات وقانون، وبناء المجتمع، على أساس المواطنة، بحيث يغدو السوريون شعبا بكل معنى الكلمة. والقصد هنا أنه لا يمكن، أو لا يكفي، الحديث عن رفض التقسيم الجغرافي في سوريا، والاتجاه نحو دولة مركزية، لأن هكذا دولة ليست دلالة قوة، ولا دلالة على الوحدة، بمعنى أن المهم هو توحيد الشعب، وهذا لا يمكن أن يأتي إلا بتكريس دولة المواطنين الأحرار والمتساوين، بمعزل عن أي تقسيمات إثنية أو طائفية أو سياسية، وهو السلاح الأمضى في مواجهة إسرائيل، الذي جرى تغييبه، أو وأده، منذ إقامة تلك الدولة.
الجهة الثانية، تتطلب تعزيز علاقات سوريا، دوليا وإقليميا وعربيا، بما في ذلك الاستجابة للتكيف مع العالم والواقع، لأن مثل هذا التكيف هو الذي ينزع من إسرائيل الحجج التي تتزرع بها.
القصد أن سوريا اليوم في مرحلة انتقالية، وبناء على عبور تلك المرحلة، على أسس صحيحة وسليمة، سيتحدد مستقبل سوريا وشعبها.