وسط توتر مستمر بين فرنسا والجزائر، تصعيد جديد وتدهور حاد في العلاقات بين الدولتين صراع دبلوماسي وطرد دبلوماسيين والمعاملة بالمثل، رداً على اعتقال موظف بالقنصلية الجزائرية في فرنسا دون مراعاة الأعراف والقوانين الدبلوماسية على خلفية خطف اللاجئ السياسي امير بوخريص، رغم محاولة التهدئة التي بدأت بين الرئيسين ماكرون وتبون في الشهر الماضي، والخطة التي وضعها الرئيسين لحل الأزمة المتفاقمة ولم تؤتي مفعولها، المصالحة هشة وظهرت عوامل عديدة جعلت الأزمة تطفو من جديد، الجزائر ترى أن هناك أطراف يمينية تضع ماكرون في وضع صعب فيما يتعلق بالجزائر وتطالبه باتخاذ اجراءات أكثر صرامة ضدها، وموقفه وسيلة للدفاع عن نفسه ضد اليمين، لاسيما بعد اعتقال الكاتب بوعلام صنصال المقرب من اليمين الذي يرى أن القضية انسانية والجزائر لا تراعي وضعه الصحي، وجزائريون يرون أن فرنسا تريد التصعيد عقب التوترات الأخيرة بين الجزائر و مالي اثر اسقاط طائرة مالية، حلقة مفرغة من ردود الفعل المتبادلة تعكس مواقف متشددة وأحياناً مستفزة تجاه القضايا الخلافية، فالخلافات السياسية معمقة ومعقدة جعلتهم يستخدمون أوراق ظرفية لمواجهة الطرف الآخر تتلخص بملفان سيظلان مزمنان في العلاقات بينهما الماضي الاستعماري الفرنسي وهي تركة ثقيلة جداً، أضيف إليها ملف الصحراء، وربما التوتر سيظل قائم مادام ماكرون رئيساً.
صحف اليمين تحدثت سابقاً عن "صيحة ثأر تستوطن اللاوعي الجزائري"، لإرث استعماري ثقيل وصفه ماكرون "جريمة ضد الانسانية"، وحاضر يتمثل بسياسات وممارسات فرنسا تجاه المهاجرين الجزائريين الموسومة بالعنصرية، فتزايد شعورهم بالكراهية وبالإقصاء الجماعي وبأنهم منبوذين من المجتمع الفرنسي، بالإضافة إلى استخدام المعارضة السياسية كأوراق ضغط على السلطات الجزائرية. ولكن هل هذا ما يجول في رأس الجزائريين؟!.
ربما نعم، فالاستعمار الفرنسي مارس أبشع أنواع التنكيل والقتل والابادة الجماعية بحق الشعب الجزائري طيلة قرن وربع (1830-1962)، كانت حصيلتها خمسة مليون شهيد فقط في الفترة بين (1954-1962) فترة الثورة الجزائرية، تحتفظ فرنسا ب 18 ألف جمجمة في متحف الانسان بباريس، قُتلوا وقُطعت رؤوسهم من قبل قوات الاستعمار الفرنسي منتصف القرن التاسع عشر، وكانت مجزرة (8 /5/ 1945) من أبشع الجرائم ضد الانسانية عندما أطلقت القوات الفرنسية النار على متظاهرين سلميين عزل لمطالبة فرنسا منحهم الاستقلال راح ضحيتها وقتلت 45 ألف شهيد، مجزرة نهر السين عندما أقدمت القوات الفرنسية على اطلاق الرصاص على تظاهرة سلمية عام (1957) وقتلت ما يقارب 1500 جزائري وألقت بهم في نهر السين واعتقلت الآلاف وبات مصيرهم مجهول، استخدمت الجزائريين كدروع بشرية ورهائن ونكلت بهم بأبشع وسائل التعذيب لنشر الرعب والتخويف كالصعق الكهربائي واستخدام الآبار المائية لسجنهم وتم اكتشاف عدد كبير منها في الولايات الجزائرية ممتلئة برفات الآلاف من الشهداء، وإجراء تجارب نووية في الصحراء الجزائرية وفي منطقة رقان حصراً في ستينيات القرن الماضي تسببت بمقتل ما يقارب 42 ألف جزائري وأحدثت عاهات مستدامة بسبب الاشعاعات التي لاتزال تلوث المكان حتى اليوم، بالإضافة إلى النهب والسرقة لخيرات وثروات الجزائر والتي طالت تاريخه وأرشيف وثائقه.
التقسيم السياسي للمغرب العربي والذي كان وليد التقسيمات الناجمة عن توزيع مناطق النفوذ بين القوى الاستعمارية الكبرى في افريقيا دون مراعاة العوامل الطبيعية أو خصائص المجتمعات المغربية المتجاورة مما أدى إلى خلق بؤر توتر ونزاعات، فأصبحت أكبر دولتين وأكثرهم فاعلية على الاقليم المغاربي الجزائر والمغرب أكثر عرضة للخلافات الحدودية والتنافس الجيوسياسي حول الصحراء المغربية لأهميتها كمنفذاً للمحيط الاطلنطي وممر بديل لمضيق جبل طارق، فاندلعت حرب الرمال عام (1963)، لم ينتصر أي منهم وتم تسوية الصراع لاحقاً ولكن التوتر بين الدولتين لم يتوقف يوماً، بالرغم من وفرة الموارد الطبيعية الاستراتيجية وغنى الجزائر بالنفط والغاز الطبيعي، فإن المغرب والجزائر من أفقر دول العالم، ووفقاً لبيانات من صندوق النقد الدولي، ورغم تشابه البلدين الجارين في التكوين العرقي بين عرب وبربر وتأثرهم بالثقافة الاسلامية والفرنسية الا أن لكل منهم ايديولوجيا مختلفة تماماً عن الأخر وفي اصطفافين متضادين عالمياً، تطبيع المغرب علاقاتها مع إسرائيل وموقف الجزائر المؤيد والداعم للقضية الفلسطينية، فانحازت المغرب إلى المعسكر الغربي وأمريكا، والجزائر انحازت إلى المعسكر الشرقي وروسيا.
الجزائر ليست بمعزل عن التغيرات والتقلبات التي فرضها البيئة الدولية، وخاصة في ظل الحرب الروسية الأوكرانية وما أفرزته من اصطفافات وتجاذبات بين الأطراف الاقليمية والدولية، فأمست روسيا وحلفائها بمواجهة أمريكا وحلفائها، مع العلم أن الجزائر لم تبتعد عن المعسكر الغربي وأنها تحاول ابقاء علاقة متوازنة مع الجميع وتحافظ على علاقتها بالغرب وأوكرانيا، فقد كان للجزائر حصة الأسد من هذه الحرب بعد أن امتنعت دول أوربية من استيراد الطاقة الروسية عند فرض عقوبات اقتصادية عليها بفعل تداعيات الحرب الدائرة في أوكرانيا، وتعد الجزائر أكبر مورد للغاز الطبيعي لعدد من الدول الأوربية وخاصة لإيطاليا والبرتغال التي كانت تعتمد على الغاز الروسي بالمطلق.
هناك دول اقليمية ستؤثر على مستقبل العالم وبنية النظام الدولي القادم، قد لا يكون تأثيرها بشكل مباشر ولكن عن طريق تحالفات وتكتلات مع دول أكبر منها فأي دولة تحت النفوذ مهما كانت صغيرة تدعم دولة عظمى كالبحصة التي تسند حجر، تجسدت بشراكة دفاعية استراتيجية معمقة تجمع روسيا والجزائر ليست فقط لتأكيد علاقات قوية منذ 60عام بل قد تكون هناك طموحات مشتركة تؤثر على خارطة التحالفات الدولية، وكذلك الوضع الاستراتيجي للجزائر في محيطها الاقليمي الذي يتسم بتوتر مع المغرب ومع دول أوربية اسبانيا وفرنسا، وتوجيه رسالة لهم أن لديها حلفاء لكل من يتربص بها من أعداء وخاصة اللوبي الصهيوني المغربي، والانضمام إلى مجموعة البريكس محاولة لترويج الجزائر كوجهة استثمارية ورسالة لرفض النظام الاقتصادي الدولي وايجاد نظام أكثر عدلاً، فالتحالف الاقتصادي لدول البريكس توازن ناعم ضد حرب ترامب التجارية، وإن لم يكن له تأثير فعلي حتى الآن.
تعيش الجزائر متغيرات وأحداث سياسية وأمنية صعبة، فرضتها عليها بيئتها الداخلية منذ أحداث العشرية الدموية في التسعينيات والمأزق السياسي الداخلي، وأزمات جوارها الاقليمي بعد ثورات الربيع العربي، ليبيا وعدم الاستقرار السياسي والأمني فيها، تونس ومخاوف من انهيار اقتصادي وتزايد عدم الاستقرار في منطقة الساحل، المغرب وقضية الصحراء الغربية، وتجميد الجزائر علاقاتها مع اسبانيا ابان تصريحاتها بشأن الصحراء الغربية وانحيازها إلى المغرب عام 2022، وتنامي ظاهرة الارهاب وجماعاته المنظمة التي تنشط في تجارة السلاح والمخدرات وتهريب البشر إلى أوروبا في المناطق الحدودية الرخوة مع مالي المزعزعة للاستقرار في حدودها الجنوبية، مما أدى إلى تراجعاً كبيراً لنفوذها في محيطها وخاصة المنطقة المغاربية وافريقيا، وربما يكون للجزائر نصيب من لعبة الخرائط، ولكن الجزائر تعد دولة محورية في النظام المغاربي وأي تغيير في مشهدها السياسي الداخلي سينعكس تلقائياً على محيطها الاقليمي.