السؤال المرّ والقاسي والموجع: ما الذي فعلناه بغزة أو ما الذي بقي منها؟


لم تنتهِ حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ فلسطينيي غزة، بعد، ولا أحد يعرف متى أو كيف ستنتهي، وهي باتت تُعرف، كأطول وأشرس حرب وأكثرها قتلاً وتدميراً، منذ إقامة هذه الدولة (1948)، على حساب الشعب الفلسطيني، إذ ذهب ضحيتها، في يومها العاشر بعد المئة، أكثر من 100 ألف منهم، بين قتلى وجرحى ومفقودين تحت ركام الأبنية المدمّرة (ضمنهم 25700 مسجّلين في قوائم المستشفيات)، مع آلاف الأسرى، ودمار 70 إلى 80 في المئة من بيوت وعمران غزة، وبُناها التحتية، وما يقارب مليوني نازح، أي أكثر من 90 في المئة من سكان غزة، يعانون ظروف مأسوية في الخيام ومن دونها، وعلى الطرقات، أغلبهم يفتقدون لقوت يومهم.
 
في مقارنة مع الحروب الأربع السابقة التي شنّتها إسرائيل على غزة، منذ العام 2008، نجد أننا إزاء حرب إبادة مهولة، أو نكبة جديدة، بكل المقاييس، إذ قضى في الأولى التي استمرت 23 يوماً (أواخر 2008) 1436 من الفلسطينيين. وفي الثانية، واستمرت 8 أيام (أواخر 2012) 155 منهم. في حين قضى في الثالثة، التي استمرت 50 يوماً (صيف 2014)، 2174 منهم، وهو أكبر من أي حرب أخرى باستثناء الحالية. وفي الرابعة، واستمرت 11 يوماً (صيف 2021)، قضى 243 فلسطينياً، علماً أنّه بين العام 2000 حتى ما قبل الحرب الحالية (أي خلال 23 عاماً) قُتل برصاص إسرائيل حوالى 11300 فلسطيني، أي ثلث الفلسطينيين الذين لقوا مصرعهم في الأشهر الثلاثة الماضية.
 
وكانت خسائر إسرائيل في تلك الحروب على التوالي 13، و3، 70، 12 إسرائيلياً، بفارق كبير جداً في الخسائر البشرية لصالحها، نسبة لجبروت آلتها العسكرية، وكان التناسب: في الحرب الأولى حوالى 1/100، والثانية 1/50، والثالثة 1/30، والرابعة 1/20 لصالح إسرائيل؛ علماً أنّه في الانتفاضة الثانية، التي طغى عليها الصراع المسلح والعمليات التفجيرية، كانت النسبة أقل، بمقدار 1/ 4، 5000 فلسطيني مقابل 1060 إسرائيلياً.
 
أما حسابات الحرب الحالية منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، فهي مختلفة، على كل الأصعدة، إذ لقي 556 من الضباط والجنود الإسرائيليين مصرعهم (219 منهم منذ بداية الحرب البرية في 27/10)، بنسبة 1 /50، بيد أنّ الأمر لا يقتصر على هذا الثمن الفادح، والمفتوح، رغم الخسائر الكبيرة جداً للطرفين، إذ ثمة أثمان باهظة، أيضاً، سياسية، واقتصادية واستراتيجية، لهما، علماً أنّه لا تجوز المساواة بين غير المتساوين، فإذا احتسبنا قدرات إسرائيل، العسكرية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، وتمتعها بقوة مضافة تتأتى من الدعم الغربي اللامحدود لها، لأمكننا تخيّل الهوة الواسعة التي تفصل الطرفين في الخسائر، من مختلف النواحي؛ هذا أولاً.
 
ثانياً، ما تقدّم لا يغفل حقيقة أنّ "حماس" أعدّت جيداً لتلك الحرب على الصعيد الميداني، وأنّ مقاتليها بعد مئة وعشرة أيام ما زالوا صامدين، يشتبكون ويقصفون، وأنّ إسرائيل لم تستطع أن تحرّر رهينة واحدة، وهذا يُقدّر لها، وبحسبان أنّ الخسائر الفلسطينية البشرية والمادية ناجمة عن التفوق العسكري لإسرائيل، في الأسلحة، وقوة النيران، وانتهاجها الإبادة الجماعية ضدّ الفلسطينيين المدنيين، إلاّ أنّ ذلك كله لا يعفي أصحاب القرار في "حماس"، من مسؤوليتهم بعدم أخذ ذلك في اهتمامهم، إلى الدرجة المناسبة، بحيث باتت الخسائر البشرية والمادية المهولة التي تكبّدها الفلسطينيون أكبر بكثير من قدرتهم على التحمّل، وأقسى وأمرّ من تخيّل أي نصر أو فوز مهما كان حجمه، حتى لو وضعت الحرب أوزارها اليوم قبل الغد.
 
ثالثاً، خاضت "حماس" الحرب، كجيش مقابل جيش، وليس وفق قواعد المقاومة المسلّحة طويلة الأمد، التي تستنزف عدوها بالضربات المتدرجة، بتوخّي تحييد آلته العسكرية ما أمكن، وتجنيب شعبها، ما أمكن، أيضاً، ردّات فعله الباطشة، والاقتصاد بطاقاتها الكفاحية بدل زجّها دفعةً واحدة في حرب "الضربة القاضية"، أو بحرب مفتوحة، باعتبار هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) كاليوم الموعود، بناءً على تقدير مبالغ فيه لقواها، أو لوهم لديها ناجم عن شعار "وحدة الساحات"، أو لعدم توقّعها ردّة فعل إسرائيلية كهذه، علماً أنّ ثمة شواهد مثلها. فبعد الانتفاضة الثانية قامت إسرائيل بإعادة احتلال مدن الضفة وغزة، وبنت الجدار الفاصل، ونشرت النقاط الاستيطانية والحواجز الأمنية في الضفة. وبعد خطف الجندي جلعاد شاليط (25/6/2006) شنّت إسرائيل اعتداءات متوالية على غزة قتلت فيها 556 فلسطينياً، أيضاً، ثم خطف "حزب الله" لجنديين إسرائيليين أدّى إلى شن إسرائيل حرباً مدمّرة على لبنان (2006).
 
رابعاً، تقف "حماس" اليوم في مأزق، فهي تطالب بوقف عدوان إسرائيل، ما يفيد بتراجع فكرتها عن استمرار القتال، الذي دعت له في اليوم الأول للهجوم، في حين إسرائيل مصرّة على الاستمرار في العدوان، لأنّها وجدت فيه فرصة سانحة لها لترويع الفلسطينيين، من النهر إلى البحر، وتطويعهم لإملاءاتها السياسية، وأيضاً، لجعل قطاع غزة مكاناً غير صالح للعيش، وللتخفّف من الثقل الفلسطيني الديموغرافي فيه، ما أمكن، بدفع فلسطينيي غزة لمغادرتها قسراً أو طوعاً. وطبعاً، لا يمكن توقّع شروط لـ"حماس" في هذه الظروف المأسوية، للأسف، إذ كل الشروط الإقليمية والدولية اجتمعت على تطويعها او إخراجها عسكرياً من المشهد، فإذا كانت تلك الحركة لم تستطع في الحروب السابقة فرض شروطها على إسرائيل، رغم كل الإعلانات عن فرض شروط، وقواعد اشتباك، فكيف سنتخيّل قدرتها على مثل ذلك في ضوء الوضع الراهن في غزة؟ ومثلاً، فإنّ المراهنة على قصر نَفَس الإسرائيليين، أو أنفهم من الحرب، غير مطابقة تماماً للواقع، فبحسب استطلاع للرأي أجراه "المعهد الإسرائيلي للديموقراطية"، فإنّ 88 في المئة من الإسرائيليين راضون عن أداء الجيش، و60 في المئة منهم يرفضون صفقة تبادل الأسرى الإسرائيليين مقابل جميع الأسرى الفلسطينيين ووقف الحرب.
 
خامساً، من البداية يفترض بـ "حماس" إدراك الشروط والظروف الدولية والإقليمية والعربية الراهنة، غير الملائمة لحرب ضدّ إسرائيل، كالتي تمّت، ربما هي ملائمة لمقاومة مسلحة بحدود معينة، ومدروسة، ومسيطر عليها، لكن الحرب الحالية غيّرت كثيراً الأوضاع، على نحو سلبي، بالنسبة للفلسطينيين، إزاء إسرائيل. طبعاً ثمة على الصعيد الدولي ما يبدو لصالح الفلسطينيين، لكن كبشر، وضدّ عنصرية وعدوانية إسرائيل، ولحقّهم في دولة فلسطينية، وفقط. أيضاً ثمة تغيّر لصالحهم لجهة انكشاف إسرائيل، كدولة استعمارية وعنصرية وعدوانية، في الرأي العام العالمي، ولدى اليهود بخاصة، لكن الشروط الدولية رغم ذلك لا تعطي أو لا تسمح للفلسطينيين بتصريف تضحياتهم ومعاناتهم وبطولاتهم إلاّ بمقدار، ووفق قيود أو التزامات معينة، مرتبطة، او منبثقة، عن اتفاقات أوسلو، لا أكثر.
 
سادساً، كل ما تقدّم لا يعني أنّه لم يكن ثمة بديل كخيار كفاحي، فالبديل كان موجوداً، فأولاً، ليس من الصحيح أنّ الفلسطينيين جميعاً رأوا في خيار الكفاح المسلّح خياراً وحيداً للصراع ضدّ إسرائيل، في كل الأوقات والظروف، فهو أحد أشكال الكفاح المشروعة، لكنه يخضع لقواعد ولحسابات الجدوى السياسية. أيضاً، هناك شكلان كفاحيان آخران، اعتمدهما الشعب الفلسطيني، ففي الضفة وغزة تمّ اعتماد أشكال المقاومة الشعبية، وضمنها الهبّات والانتفاضات، على نحو ما جرى في الانتفاضة الشعبية الأولى (1987 ـ 1993)، وفي انتفاضة الدفاع عن حي الشيخ جراح (2021) وهبّات القدس المتوالية. أما فلسطينيو 48، فإلى صمودهم في أرضهم، انتهجوا أشكال الكفاح السياسية والقانونية، وضمنها الهبّات الشعبية (على غرار يوم الأرض 1976)، وضمنها مشاركتهم في انتفاضات وهبّات الضفة وغزة. والمعنى هنا أنّ الكفاح المسلح، كخيار وحيد، حملته وفرضته الحركة الوطنية الفلسطينية، التي نشأت أساساً في الخارج، في منتصف الستينات من القرن الماضي، مثلما فرضت ذاتها، بأجندتها وكياناتها وشعاراتها، كمعبر، وكممثل، عن الشعب الفلسطيني كله؛ وربما أنّ الانتفاضة الشعبية الأولى كانت هي الأكثر ملاءمة وتمثلاً لظروف الفلسطينيين وإمكاناتهم.
 
سابعاً، في الحروب السابقة، كانت "حماس" تضع شروطاً لوقف الحرب، تتراوح بين رفع الحصار عن غزة، وتوسيع مساحة الصيد في البحر، والسماح ببناء ميناء ومطار، والإفراج عن المعتقلين، ووقف انتهاكات المقدّسات، لكن كل ذلك كان يضيع، والتضحيات تتبدّد، بسبب تعنّت إسرائيل، واليوم زادت "حماس" بطلب إقامة دولة فلسطينية، علماً أنّ ذلك يعني تراجعها عن الفلسفة التي قامت عليها، وأسست عليها معارضتها، وبرّرت بها الانقسام!.
 
الوضع في غزة كان سيئاً، ولا يُحتمل، وغير مقبول، لكن السؤال المرّ والمؤلم الآن: ما الذي تبقّى من غزة؟ أو ما الذي فعلناه بغزة؟ أو ما الذي بقي لنفعله لغزة، ولشعب غزة؟.

 

Loading...