ترويج هوليوود لسردية سفر الخروج التوراتية المزورة

 

شاهدت مؤخراً فيلم (الخروج: آلهة وملوك)، الذي صدر في العام 2014، إذ يتناول مخرجه وكاتب سيناريو الفيلم قصة النبي موسى، كما وردت في (سفر الخروج) في العهد القديم، مع تعديلات تقتضيها الإحتياجات الدرامية، تناول الفيلم: ولادته وإنقاذه وهو رضيع، مروراً بتبني الأسرة الحاكمة له، وتحديه للملك رمسيس الثاني لاحقاً، مروراً بما فعله رب اليهود بشعب مصر من إبتلاءات، كالضفادع والدم والجراد والبَرَد.. الخ، وصولاً إلى قيادته لشعبه في الخروج من مصر واجتيازهم البحر، وابتلاعه لرمسيس وجنوده..

هذا الفيلم يعيد للأذهان كيف أستثمرت الحركة الصهيونية السينما منذ السنوات الأولى لإختراعها، بحيث أوصت في مؤتمرها الأول، الذي عقد في بازل/ سويسرا عام 1897، بتسخيرها لخدمة هدفها بإقامة وطن لليهود في فلسطين. وفي العام 1902 مولت الحركة الصهيونية إنتاج أول فيلم دعائي، عن أن فلسطين هي "أرض الميعاد"، واستمرت في استخدام السينما لجذب المستوطنين اليهود، وتحديداً من الدول الغربية في العشرينيات والثلاثينييات إلى فلسطين، كما وظفت في الأربعينيات الهولوكوست، للحصول على تعاطف الرأي العام الغربي، لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

وبعد تأسيس إسرائيل عام 1948، بدأت استوديوهات هوليوود فى إنتاج المزيد من الأفلام عنها، لتقديرها بوجود فرصة لظهورسوق توزيع جديدة. وخلال خمسينيات القرن الماضى عرضت الحكومة الإسرائيلية على الاستوديوهات الأمريكية حوافز ضريبية سخية، وتعاوناً لوجستياً مكثفاً، للقدوم والعمل والتصوير فى إسرائيل، كما انجذب صانعو الأفلام أيضاً إلى مواقع تصوير"أصلية" للملاحم التوراتية، كأفلام: سيف فى الصحراء 1949، والمشعوذ 1953، والخروج 1960.

وبالعودة إلى فيلم (الخروج: آلهة وملوك)، الذي كلف إنتاجه 150 مليون دولار، مثل به ممثلون من ذوي البشرة البيضاء والشعر الأشقر والعيون الزرقاء، الذين لا يمتون إثنيا لشعوب شرق المتوسط، فإن كاتب سيناريو الفيلم إدعى أن اليهود هم من بنوا الأهرامات بالسخرة، إلا أن دراسة صدرت عن المركز القومى المصري للبحوث الأنثروبولوجية، تضمنت دراسة طبية وتحليلية للهياكل العظمية لبناة الأهرام، من العمال والمهندسين والمشرفين على العمل، الموجودة بالمقبرة الخاصة بهم في منطقة الأهرامات،  أثبتت أنهم جميعاً من قدماء المصريين خلال فترات حكم الأسرالملكية المصرية المختلفة.

وكشفت آثار مصر عن أن قدماء المصريين سجلوا كل شاردة ووارده في حياتهم، إبتداء من سير الأسر الملكية، وإنتهاء بالحياة اليومية للفلاحين البسطاء، على الأعمدة الحجرية وعلى جدران المعابد وأوراق البردي، إلا أنه لم يرد أي ذكر إطلاقا لليهود بأي تسمية، ولا لحدث بارز كهرب 600 ألف "عبد" من مصر وابتلاع البحر لملكها وجيشه أثناء مطاردته لهم!!     

إن إسطورة خروج اليهود من مصر وانشقاق البحر وإبتلاعه لفرعون وجيشة كما يرويها فيلم (الخروج: آلهة وملوك)، هي أيضا محور كتاب الصهيوني إيمانويل فليكوفسكي (عصور في فوضى). وفليكوفسكي هذا يعتبرمن كبار منظري ما يسمى بـ "القومية الإسرائيلية"، بجمعه وتصنيفه لقرائن وشواهد ودلائل وبراهين، بمنهج علمي متقن التزويرلـ "ملائمة القدم لتناسب الحذاء"..

فليكوفسكي يذهب إلى أن الخروج اليهودي من مصر، صاحبته أحداث وظواهر طبيعية عصفت بمصر، ومن هذه النقطة يبدأ بتأسيسِ موطئ قدم لبني إسرائيل في التاريخ (الذي لم يرد فيه أنهم وجدوا اصلاً في مصر)، بتسويغه لأحداث الخروج، هذا الخروج الذي يتمكن من خلاله "شعب الله المختار" من النجاة، بعد أن أغرق الرب فرعون وجيشه أثناء مطاردته لهم في طريقهم لعبور سيناء، في محاولة منه لتحويل الأسطورة إلى وقائع حية فاعلة، للإستنتاج من أن ما جاء سفر الخروج هو كتاب تاريخ يعتد بصحة ما ورد به..   

وفي سياق نظريته التزويرية، وضع فليكوفسكي جداول زمنية تاريخية تتزامن مع أساطيرالتوراة، وذلك بالإرتكاز على بردية (معاتبات إيپووِر)، التي تعود كتابتها إلى أواخرعهد الأسرة المصرية العشرين (1991-1803 ق.م )، والمحفوظة حالياً في المتحف الوطني الهولندي للآثار في لايدن. والبردية برأي علماء المصريات هي عمل أدبي على شكل حوار غير مكتمل مع "رب الجميع"، تصف معاناة مصر من كوارث طبيعية، وإنقلاب الأموررأسا على عقب، حيث أصبح الفقراء أغنياء والأغنياء فقراء، وأصبحت الحرب والمجاعة والموت في كل مكان، بسبب ثورة الخدم في المعابد والقصور وتركهم للخدمة.

ويعتقد علماء الآثار أن البردية على الأرجح هي عمل دعائي ملكي، جرى تأليفه في عهد الفرعون (سنوسرت الثالث)، الذي اشتهر باستخدام الدعاية لوصف موضوع الأمة التي سقطت في غمار الفوضى والتبعثر، وحاجتها لملك قوي من شأنه أن يهزم الفوضى، ويعيد آلهة الحق والعدل (ماعت). ويعتبر علماء الآثارأن بردية العتاب هذه هي أقدم رسالة معروفة في العالم تتعلق بالأخلاق السياسية، التي تقترح أن الملك الصالح هو الذي يسيطر على المسئولين الظالمين، ومن ثم ينفذ إرادة الآلهة. 

 لكن فليكوفسكي" لوى عنق" البردية، واعتبرها دليلاً على وقوع بلاء متعدد الأشكال ضرب شعب مصر، في الأيام التي سبقت خروج اليهود من مصر، بالإدعاء أن ما جاء في البردية، يتطابق مع نصوص من سفر الخروج في العهد القديم، الذي إرتكز سيناريو فيلم (الخروج: آلهة وملوك) عليه.

ومن المقاربات التي ساقها فليكوفسكي بين سفر الخروج وبردية لادن لإثبات نظريته بلاء (الدم في النهر) مثلا، حيث وصفه في سفر الخروج على النحو التالي: "وحفر جميع المصريين حول النهرِ لأجلِ ماء ليشربوا، لأنهم لم يقدروا أن يشربوا من ماء النهر، مات السمك الذي في النهر وأنتن"، في حين جاء وصفه في البردية على هذا النحو: "هذه مياهنا، وهذه سعادتنا، فماذا سنفعل بعد الآن؟ عاف الناس شرب الماء … الكل حطام."

ويستمر فليكوفسكي في "لوي" عنق البردية بسرد وصف سفر الخروج بـ (بلاء البرد والنار) بالقول: "فضرب البَرَدْ في كل أرضِ مصر، جميعَ ما في الحقل من الناس والبهائم، وضرب البَرَدْ جميع عشب الحقل، وكسر جميع شجرِ الحق.. لكن البردية نصت حرفياً على "أن لا فاكهة ولا محاصيل موجوده". وكذلك الأمر بما يتعلق بـ (بلاء الطاعون)، إذ جاء في سفر الخروج" يد الرب تكون على مواشيهم التي في الحقل، على الخيل والحمير والجمال والبقر والغنم… سيفتك بها طاعون… جميع الناس والبهائم الذين يوجدون في الحقل… ينزل عليهم البَرَدْ فيموتون" فيما اكتفت البردية بالقول " كل الحيوانات قلوبها تنتحب… والماشية تئن"

كتاب ومفكرين عرب مثل فاضل الربيعي وأحمد داود وفرج الله ديب، ومن قبلهم كمال الصليبي وعلماء آثار ومستشرقون غربيون، يطرحون نظرية مفادها بأن اليهودية لاعلاقة لها لا بمصر ولا بفلسطين، وأن نشأتها ومسرح أحداثها في مناطق جنوب الجزيرة العربية وتحديداً في اليمن، وأن الإستشراق التوراتي والآثاريين التوراتيين، زوروا التوراة لخدمة الحركة الصهيوينة، بإسقاط جغرافية جنوب غرب الجزيرة العربية، على جغرافية فلسطين لإستعمارها.

ورغم وجاهة هذه النظرية إلا أن السردية التوراتية المزورة هي المهيمنة، لأن خمسة أسفار منها بما فيها سفرالخروج، تعد جزءً من المعتقد المسيحي، الذي يدين به أكثر من مليارين وخمسمائة مليون شخص حول العالم، ناهيك عن أن نحو ملياري مسلم، يؤمن الكثير منهم بما تسرب إلى تراثهم الديني من إسرائيليات، ويعتبر معظمهم أن أي سردية مضادة لسردية الإسرائيليات التراثية هي بمثابة تجديف.

 

كلمات مفتاحية::
Loading...